رئيس التحرير
عصام كامل

حواديت من غرفة الكراكيب

قبل سنوات انتقلت للسكن في شقة بمنطقة وسط البلد، صحيح أن إيجارها يبتلع نصف راتبي، لكن لا يهم طالما فقد اشتريت بهذا الإيجار نصف عمري الذي كان يضيع في زحام الطريق ما بين بيتي وعملي.

أتذكر تلك الليلة التي التقيت فيها الحاج برهان، اصطحبني في جولة داخل الشقة الواسعة بالبناية العتيقة التي تطل على ميدان عابدين، طفنا أرجاء المكان حيث المطبخ الواسع بنوافذه التي تطل على حديقة خلفية، والحمام الذي يمكن لنصف دستة أطفال أن يلعبوا فيه مباراة كرة قدم، ثم أربع غرف ليس بينها ما يطل على مناور، فجميعها مفتوح على شوارع رئيسية.

هم الرجل ليغادر الشقة، لكنني استوقفته لأسأله عن سر الغرفة الخامسة، تلك التي تقبع في آخر الطرقة. احمر وجه الرجل ثم تزرق ونفرت عروق رقبته وقال بصوت مخنوق: سايق عليك النبي متقرب منها ولا تسألني عن السبب.

سر الغرفة الخامسة

لخمس ليال متعاقبة، لم يقترب النوم من عيني، حتى أنني في اليوم السادس سقطت على الأرض بعدما انهار جهازي العصبي، وحين استيقظت اكتشفت أنني في اليوم السابع. يومان كاملان مرا، لا أدري ماذا حدث فيهما، لكن على كل حال من الطبيعي أن ينام المرء لثمان وأربعين ساعة متواصلة بعد أكثر من مئة ساعة من الأرق.

تجاوزت أسبوعي الأول في شقتي الجديدة، وعشت سنوات من الروتين الآمن، كان عزائي الوحيد فيها تلك الجائزة الكبرى التي فزت بها.. وهي عمري الذي وفرته بدلا من إنفاقه في الطريق بين محل السكن ومقر العمل.

في السنوات الخمس، ترقيت في عملي –الذي لا أحبه– وأصبحت مديرا لإدارة كبيرة، يتبعني فيها أكثر من خمسة عشر موظفا، جميعهم ينافقني من أجل يوم إجازة أو حفنة جنيهات كأجر إضافي.

واليوم، بعدما عدت من جنازة الحاج برهان، قررت أن أفعل ما لم أفعله طيلة السنوات الخمس.. كسرت باب الغرفة المحرمة، لكنها كانت مظلمة والمصباح داخلها تالف، فأخرجت ولاعة السجائر أشعلت واحدة وألقيت نظرة في الأرجاء مستغلا ذاك الضوء الخافت، فرأيت عشرات من الصناديق المرصوصة بعشوائية.

في البداية، ظننت أن هذه الغرفة ربما كانت غرفة الكراكيب الخاصة بسكان الشقة السابقين، وجال بخاطري اعتقاد آخر بأنها ربما غرفة تجمع أغراض تخص شخصا توفي في هذا المكان، لهذا استحلفني الحاج برهان ألا أفتحها وألا أسأل عن السر.

طفل يعانق القمر

لكنني حين فتحت أول صندوق، وجدت ألعابا أعرفها جيدا.. ألعابي أنا في طفولتي، فعيني لا تخطئ هذا الحصان الخشبي المكسور، وتلك الكرة المكسوة بشخابيطي.. وهذه كراسة الرسم التي صورت فيها أحلامي.. وتلك ساعتي الرقمية عتيقة الطراز.

وفي الصندوق الثاني، وجدت كومة من المجلات العامرة بصور الحسناوات. وفي صندوق ثالث أول علبة سجائر اشتريتها في حياتي، وكنكة صغيرة من النحاس اشتراها لي أبي من الحسين، وبضع علب ورقية من لبان بنكهة النعناع ما زالت رائحتها تفوح منها بقوة كتيار هواء بارد في ليل صيفي ساخن.

أما الصندوق الرابع، فيحوي عددا من شرائط الكاسيت لماجدة الرومي والشاب خالد ومنير.. وأسفل منها مجموعة كتب لمحمود السعدني وأحمد رجب وكتاب آخرين غير معروفين. وفي الصندوق الخامس، وجدت حزمة أوراق رسمية، بداية من شهادة ميلادي ثم شهادات مدرسية عدة تعلو شهادة من الورق المقوى تعلن حصولي على ليسانس الآداب.

وداخل الصندوق السادس، وجدت ألبومات صور كثيرة.. كل نهى يحوي صورا خاصة بمرحة من حياتي، ومنها ألبوم لحفل زفافي وصوري مع زوجتي وأبنائي التسع، الذين تفرقوا بين القارات، فأحدهما مهندس في كندا والكبرى طبية في البحرين وأختها مع زوجها في البرازيل وصدقا لا أدري لماذا البرازيل.. أما الباقون فيعملون أو يدرسون ما بين جنوب القارة السمراء إلى شمال القطب الذي يقطنه البطاريق.

لا أفهم كيف أتت هذه الصناديق إلى هذه الشقة، بل كيف سبقتني إليها.. كيف للماضي أن يعبر إلى المستقبل وأنا بينهما عالق في حاضر بلا ملامح؟ انتبهت فجأة إلى أن النار قد أمسكت في الأصبع الأوسط في يدي اليمنى، فأصبح كما الشمعة تضيء الغرفة، ومع ذلك لم أشعر باحتراقي.. فنفخت في أصبعي وأطفأته ثم خرجت وأغلقت باب الغرفة.

في الصالة، وجدتني ممدا على الأرض.. جثة نائمة في سلام منذ خمس سنوات مضت، بينما المرحوم الحاج برهان يجلس إلى جوارها وفي يده طبق به ماء وملح ينثره على شعر الجثة -الذي هو في الواقع شعري وهي جثتي- ويتمتم بأغنية قديمة عن طفل يعانق القمر في ليالي خوفه.

الجريدة الرسمية