رئيس التحرير
عصام كامل

الرجل الذي اشترى الشاشة

في قرية صغيرة قرب النهر، عاشت أسرة رقيقة الحال في بيت مبني من الطين، وكل ما لديهم بضع فرخات وديك وبقرة واحدة هزيلة يحلبونها كل صباح وقطعة أرض صغيرة يزرعونها بالخضر التي يعتاشون منها، إذ يطبخون بعضها ويبيعون باقي المحصول بمبلغ من المال بالكاد يكفي الرجل وزوجته وثلاثة أبناء.


في ذلك البيت، كان الصغار يتسلون بالفرجة على ما يقدم في التلفزيون من برامج ومسلسلات وأفلام.. لكنه كان تلفزيون قديم بشاشة صغيرة، لهذا كانت أعينهم لا تكف عن البكاء لعدم قدرتهم على رؤية الأشياء التي يحبونها في التلفزيون بوضوح.


ظل الحال هكذا لسنوات، حتى خطرت على بال الأب فكرة، إذ قال لزوجته إنه يريد شراء جهاز تلفزيون حديث بشاشة كبيرة جدا، حتى يتمكنوا من متابعة المسلسلات والأفلام والبرامج بشكل أفضل، وحين قالت الزوجة إن الأمر غير ضروري خصوصا وأنهم لا يمتلكون مالا كافيا لشراء تلفزيون جديد، قال الرجل إنه سيفعل ذلك من أجل الحفاظ على نظر أبنائه الذي ضعف بسبب تلك الشاشة لصغيرة.


همهمت السيدة وبرطمت بكلام لم يفهمه الرجل، غير أن الأبناء حين سمعوا بالأمر فرحوا، وراحوا يحلمون بتلك الشاشة العملاقة التي ستجعلهم يعيشون لحظات سعيدة مع أكثر شيء يحبونه. فاتت شهور والرجل لم يف بوعده، فما استطاع أن يدخره طيلة تلك الشهور لا يكفي لشراء زر واحد من ذلك الجهاز غالي الثمن، لهذا قرر أن يقترض من البنك الكبير في المدينة المجاورة، كي يحقق ما يريد.


في البنك، استقبل الرجل استقبال الفاتحين، حيث أجلسه الموظف على مقعد وثير، وأحضر له كوبا كبيرا من قهوة فاخرة لم يتذوق الرجل مثلها في حياته، ثم راح يوقع على أوراق القرض، الذي تسلمه لاحقا منقوصا الرسوم وبعض المصاريف التي جعلته قرضا منكمشا كما الملابس بعد غسيلها.


انصرف الرجل مسرعا، وذهب إلى المحل الكبير في المدينة الكبيرة واشترى التلفزيون الذي وعد أبناءه به، ثم عاد إلى بيته ليقابله الأطفال بفرحة كبيرة، بينما لم ترتسم على وجه الأم سوى علامات الغضب.


مرت الأيام والرجل هو وأبناؤه يسهرون كل ليلة أما التلفزيون ليشاهدوا كل ما يقدم على الشاشة، وهو الأمر الذي لم يعجب الأم، التي وجدت أن زوجها لم يعد يذهب إلى عمله في الحقل، وكذلك  انقطع الأبناء عن الذهاب إلى المدرسة.
تراكمت الديون على الرجل وتضاعفت الأقساط والفوائد، إلى أن طرق باب البيت مندوب البنك مصطحبا رجال الشرطة من أجل الحجز على الأرض الزراعية لتسديد أقساط القرض.


جمع الرجل أبناءه وحاول طمأنتهم قائلا إن الأرض في كل الأحوال لم تعد صالحة للزراعة بعد أن هجرها فبارت، فنام الأولاد أمام التلفزيون حتى الصباح، حين استيقظوا على طرقات مزعجة كادت تدمر باب البيت.


في هذه المرة أيضا جاء مندوب البنك ورجال الشرطة، وأخذوا البقرة لأن ثمن قطعة الأرض لم يكن كافيا لتسديد كامل مبلغ القرض، ومثلما حدث في المرة الماضية، تحدث الرجل إلى أبنائه، وأخبرهم أن البقرة لم تعد تدر لبنا لأنها لم تأكل منذ شهور بسبب بوار الأرض.


في المرة الثالثة، أخذ مندوب البنك البيت وبات الرجل وأبناؤه والتلفزيون في الخلاء. وفي الزيارة الرابعة، قرر مندوب البنك أن يأخذ عيون الأبناء بأن يقتلعها من وجوههم تسديدا لبقية مبلغ القرض.

 


وأخيرا، انزاح الكابوس فقد تسلم الرجل ورقة رسمية تفيد بتسديده كامل القرض، فبات هو وأبناؤه في الخلاء يتابعون ما يعرض في التلفزيون من برامج ومسلسلات وأفلام.. صحيح أن الأطفال لم يكن لديهم أعين لمشاهدة التلفزيون لكن الأب كان ماهرا في أن يسرد لعياله ما يراه هو بعينيه على الشاشة.
راحت الأرض وراحت البقرة وراح البيت.. وكف الأطفال عن البكاء، فلم يعد لديهم عيون كي تدمع.. لكن بقيت الشاشة الكبيرة تضيء الخلاء.

الجريدة الرسمية