رئيس التحرير
عصام كامل

"المسحراتى" مهنة تعود للحياة مرة كل عام

 المسحراتى - صورة
المسحراتى - صورة أرشيفية

وسط زخم المدينة والبنايات الشاهقة، يسير واثق الخطي، ممسكا بطبلته، يطرق بإيقاعات متساوية، يقطع سكون الليل، محملا بإيمان أنه يؤدي واجبا وطاعة تجعله يمارس عمله بدأب ونشاط، يطوف الشوارع والحارات والأزقة، وبصوت جهور ينادي كل صاحب بيت باسمه، قائلا " اصح يا نايم..وحد الدايم.. رمضان كريم ".


المسحراتي هي مهنة تطلق على الشخص الذي يوقظ المسلمين ليل شهر رمضان لتناول وجبة السحور، فتلك الوظيفة القديمة لا تخرج إلى الحياة سوي مرة واحدة كل عام، ورغم تنوع الأساليب الحديثة التي يستخدمها الناس للاستيقاظ للسحور، فإنه ما زال موجودا في شوارع وأزقة المناطق الشعبية والقرى الريفية محتفظا بشكله التقليدي الذي يعتمد على الجلباب وبصحبته الطبلة الصغيرة والعصا التي ينادي بها على أبناء الحي الذين عادة ما يعرفهم بأسمائهم ويناديهم بها.

ويعد المسحراتي أحد مظاهر وعلامات شهر رمضان الكريم، ويرجع ظهور وظيفة المسحراتي في مصر إلى عصر الدولة العباسية قبل نحو 12 قرنًا، وفى العصر الفاطمي أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي جنوده بالمرور على البيوت والطرق على أبوابها ليلا ليوقظوا النائمين لإدراك وجبة السحور، ومع مرور الأيام حرص أولو الأمر من الحكام الذين تولوا أمر البلاد على تعيين رجل يختص بوظيفة المسحراتي في مصر وكان يتقاضى أجرا من الدولة نظير قيامه بهذه المهمة.

ولم يعرف للمسحراتي أجر معلوم، فكان يأخذ ما يجود به الناس في صباح العيد، وعادة كان يأخذ حبوبًا، إلى جانب وجبة السحور التي يأخذها طوال الشهر الكريم.

مهنة المسحراتي تطورت مع تغير الأزمنة والأمكنة، ففي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان المسلمون يستيقظون بأذان الصحابي " بلال بن رباح"، ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان الصحابي "عبد الله ابن أم مكتوم"، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".

وفي مكة كان "الزمزمي" ينادي من أجل السحور، وكان يتبع طريقة خاصة، بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منة قنديلان كبيران حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد.

ويذكر المؤرخون أن المسحراتي ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر "عتبة بن إسحاق"، عدم انتباه الناس إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلا لإيقاظ أهلها وقت السحر، وكان ذلك عام 238 هجرية، فكان يطوف على قدميه سيرا من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط، مناديًا الناس: " عباد الله، تسحروا فإن في السحور بركة".

وفي عصر الدولة الفاطمية، أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمرًا لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجلًا للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: " يا أهل الله قوموا تسحروا"، ويدق على أبواب البيوت بعصا كان يحملها في يده تطورت مع الأيام إلى طبلة يدق عليها دقات منتظمة، ويدق أيضا على أبواب المنازل بعصا يحملها في يده.

ونجح المصريون بعد ذلك في تطوير مهنة المسحراتي، فابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا، وكانت تسمي "بازة"، وهي صغيرة الحجم يدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تجوله بالأحياء، وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة، ثم تطور الأمر إلى عدة أشخاص معهم "الطبل البلدي"، و"صاجات"، برئاسة المسحراتي، ويقومون بغناء أغان خفيفة وكان يشارك المسحراتي الشعراء في تأليف الأغاني التي ينادون بها كل ليلة.

وفى العصر العباسي في بغداد، كان "ابن نقطة" أشهر من عمل بالمهنة، وكان موكلا إليه إيقاظ الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فقد كان ابن نقطة يتغنى بشعر يسمى " القوما" مخصص للسحور، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، وقد أطلق عليه اسم القوما لأنه كان ينادي ويقول: " يا نيام قوما.. قوما للسحور قوما"، وقد أعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته.

وعندما مات أبو نقطة خلفه ولده الصغير وكان حاذقًا أيضا لنظم "القوما"، فأراد أن يعلم الخليفة بموت أبيه ليأخذ وظيفته فلم يتيسر له ذلك، فانتظر حتى جاء رمضان ووقف في أول ليلة منه مع اتباع والده قرب قصر الخليفة وغنى القوما بصوت رقيق رخيم فاهتــــز له الخليفة وانتشى، وحين هم بالانصراف انطلق ابن أبي نقطة ينشد: يا سيد السادات لك في الكرم عادات، أنا ابن أبي نقطة، تعيش أبي قد مات، فأعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وحسن بيانه مع إيجازه، فأحضره وخلع عليه ورتب له من الأجر ضعف ما كان يأخذ أبوه.

الجريدة الرسمية