رئيس التحرير
عصام كامل

زلزال غزة يهز العالم

كما هى عادتى استيقظت مبكرا وأدرت زر التلفاز على محطات عالمية ذات تأثير كبير، مثل الجزيرة التى بلغت من الإبداع الخبرى منتهاه في نقل وقائع العدوان على غزة، كانت قوات الأمن تتدخل بعنف لحصار طلاب جامعة يبدو أنها تقع فى واحدة من دول العالم المتخلف والمسماة مجازا نامية.


عدت بالذاكرة إلى أيام الجامعة، حيث كنا وكانت قوات الأمن تحاصر كل شيء حتى الأنفاس، كنا نتظاهر لموت سليمان خاطر الغامض، وكنا نتظاهر لتغيير اللائحة الطلابية، وكنا نتفاعل مع قضايا الأمة فى كل شبر فيها.. كنا وكانت قوات الأمن نقيضين يجتمعان.. نحن نتظاهر وقوات الأمن وظيفتها فض المظاهرات.

Advertisements


والحق يقال.. كان حرم الجامعة مقدسا لا تدخله قوات الأمن.. هى تحاصر الجامعات حتى لا تخرج المظاهرات إلى الشوارع، ومن ثم تهديد السلطات.. كانوا يقبضون علينا خارج حرم الجامعة.. كانت هناك قواعد وقيم أمنية حتى فى عمليات القبض والتحقيق وأحيانا التعذيب.


قوات الشرطة التى أراها الآن على الجزيرة وقنوات أخرى ترتدى أزياء سوداء وتحمل الهراوات تضرب بعنف وتقبض على كل من تطوله داخل محراب الجامعة، يبدو أن القواعد تغيرت، وأنه بات مسموحا لقوات الأمن الدخول إلى مخادعنا وإلى أسرتنا وإلى كل محرم كان لنا فيه قيمة.


مشهد عاشته عواصم عربية كثيرة انتقلت من مراحل التحرر الوطنى إلى الاحتلال الوطنى الغاشم، والذى عبرت عنه المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد كما روى عنها عم أحمد فؤاد نجم الشاعر المتمرد حتى النخاع عندما أخبرنا أنها قالت: “السجان هو السجان، لم يتغير بل زاد عنفا وبطشا”.


أمعنت النظر ودققت السمع فإذا بالمذيع يعلق على المشاهد مؤكدا أنها من إحدى الجامعات الأمريكية، تغير المشهد لينتقل إلى مشهد آخر من جامعة ألمانية، رجال شرطة مدججون بالأسلحة يهاجمون طلابا ويقبضون على بعضهم ويطرحونهم أرضا.


لم أصدق أن تلك المشاهد قادمة من دول كثيرًا ما مارست الضغوط على أنظمة بلادنا تحت شعار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كيف تأتى لتلك العواصم أن تسرق من عواصمنا أدوات أنظمتها وطرق الحكم فيها، وكيف غيرت وظائف شرطتها وقوتها الأمنية على نحو يتطابق مع ما كانت تسميه تضييقا واستعبادا وديكتاتورية.


تابعت بدقة أكثر محطات أخرى تنقل أحداث ثورة طلابية لا يجمعها إلا هدف واحد.. وقف الإبادة الجماعية ضد أبناء غزة، وهم ليسوا من غزة وليسوا عربا وليسوا مسلمين.. إنهم بشر صدقوا ما تعاطوه من أنظمة اجتماعية وسياسية فى بلادهم.. يجمعهم أنهم بشر.


بدا واضحا أن الوظيفة الجديدة لقوات الأمن في أمريكا وعواصم غربية جديدة عليها، وكان لزاما على أولى الأمر هناك أن يأتوا إلينا للحصول على دورات تدريبية يتعلموا فيها كيفية وأد المظاهرات قبل اندلاعها، وكيف ينشرون الخوف بين الطلاب ويمنعون الحدث قبل وقوعه.. إننا بارعون في هذا الأمر كما لم نبدع في غيره.

غزة تنتصر


لو جاءوا إلينا وأنصتوا وتدربوا وتعلموا لما خرج طلابهم عن النص الذى نلتزم به هنا.. هنا حيث لا مظاهرات ولا احتجاجات ولا اعتراض على وأد الإنسانية على أرض غزة.. هنا وفي عواصمنا العربية نعرف كيف نمارس كل صنوف الحصار على كل شيء حتى الأنفاس.


أمعنت النظر ثانية وأدركت أنه زلزال غزة يتمدد يوما بعد يوم ليهزم إنسانية الغرب المزيفة، وأيقنت أن الانتصارات التى كنا نقرأ عنها في التاريخ تغيرت مفاهيمها تماما وأصبح النصر لمن ينتصر للإنسانية وليس لمن يقتل أو يحتل أرضا.. الانتصار الآن هو وضع الصهيونية بكل جبروتها في مربع الاختناق الجبرى.


غزة تنتصر للإنسانية وتوقظ في العالم بعض ملامح الرحمة وتضع الكيان الذى مارس القتل كثيرًا ومارس الغصب كثيرًا ومارس الذبح كثيرًا في خانة المنبوذ.. يضع الغرب في مواجهة شعوبه أمام سؤال منهجى يتعلق بمفهوم الحياة والعدالة والمساواة والإنسانية.


غزة تنتصر خارج حدودها المتعبة، المرهقة بالقتل والتدمير.. غزة تصنع من دماء أطفالها نصرا إنسانيا عظيم الأثر.. زلزال غزة يهدد الغرب فى أكذوبته ويهدد القابعين على صدور شعوبهم فى بلاد كثيرة بالسؤال عن شرعية وجودهم وشرعية تغييبهم للحرية والديمقراطية تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.


علت أصوات الحكام فى بلادنا وخفتت أصوات الجماهير لأن الحاكم مشغول بالإعداد لحرب تطهر فلسطين من دنس الصهيونية.. عقود مضت وسنوات أكلتها سنوات ونحن أسرى فى زنزانة الحاكم المنشغل بالعدو حتى بتنا في تقاريرهم ضمن أعدائه!


غزة تهز كل سلاطين الدنيا ودماء أطفالها لن تذهب هدرا.. غزة تحرر العالم من الغطرسة والمعايير المزدوجة.. غزة تحرر الإنسان وتعيد إليه إنسانيته.. غزة دكت بدماء نسائها حصون البيت الأبيض وقصر الإليزيه وقصور الحكم فى ألمانيا.. غزة تعيد الفطرة إلى فطرتها.

 


ومن عواصم الغرب المتحكم فينا كيف يشاء تنتفض شعوب لا يزال فيه الخير باقيا، لتوقظ شعوبا ظن البعض أنها في عداد الأموات.. انتفاضة الغرب تتمدد وتتمدد ولن تتوقف حتى تغير العالم كله من غربه إلى شرقه.. غزة شهيدة العالم والإنسانية، وغزة تبنى الآن نصبا تذكاريا لآخر جرائم التضليل.
غزة زلزال سيغير كل قواعد اللعبة والأيام حبلى بما لا يتصوره كل دعاة السيطرة والسرديات الوهمية.. غزة تكتب تاريخا جديدا للعالم!

الجريدة الرسمية