رئيس التحرير
عصام كامل

سوبر بشوات مصر

بمصادفة، ودون تخطيط، طرح علىَّ تيك توك فقرة لشاعر العامية العظيم أحمد فؤاد نجم عندما سأله عمرو الليثى عن سر هجومه على عبد الناصر ورجاله، فقال عمنا نجم: «يا عمرو دول سرقوا السجاجيد من القصور».. وقاطعه عمرو: «مش كلهم حرامية».


انتهيت من الفقرة سريعا، وعدت إلى مكتبتى لأبحث عن واحد من أهم الكتب التى تناولت حقبة ما قبل ثورة يوليو وما بعدها، وقارنت بين العهدين، وقدمت كتابا اعتمد على وثائق إنجليزية مهمة، وعلى كتابات ما بعد عهد عبد الناصر التى وثق بعضها لأحداث مهمة.

Advertisements


عندما أعلنت إنجلترا عن إتاحة الفرصة للباحثين للاطلاع على أوراق وزارة الخارجية التى مر عليها أكثر من ثلاثين عاما، حزم الرجل حقائبه واتجه فورا إلى لندن، حيث الكنز الذى أراده؛ للاطلاع على وثائق تخص مصر قبل ثورة الضباط في يوليو 1952م.


ولم يكن المؤرخ والمفكر الكبير يظن أنه سيجد نفسه أمام كنز الكنوز من الوثائق والأوراق التى اكتشف من خلالها أن بريطانيا العظمى -أو التى كنا نتصور أنها عظمى- لم تكن سوى أكذوبة كبيرة من التفاهة والضحالة، ورأى المفكر بعينيه وثائق تشير وتؤكد أن الإنجليز لم يكونوا بهذا الذكاء الذى تصوره المصريون عنهم.


ضحالة في وثائقهم ولغة هابطة في مكاتباتهم وتصورات واهية، يقول الرجل في مقدمة كتابه المدهش إنه وقف طويلا أمام تقرير عن مفاوضات عدلى-كيرزون فلا عدلى باشا يعرف ما يريد، ولا كيرزون يريد أن يسمع شيئا، إنما هو يجلس للمفاوضة ويقينه أن مصر لن تستقل ولو بعد مائة عام، وعدلى باشا ليس بعيدا عن هذا التصور وهو يظن أنه يقف موقف القاضى العادل بين بلدين متخاصمين.
 

وكان عدلى باشا يرى أن العدل أن تمنح بريطانيا مصر ظاهرا من الاستقلال يسد به أفواه المشاغبين والغوغاء من الوفد وكل من على شاكلتهم. ويخلص المفكر الكبير بعد الاطلاع على مئات الوثائق إلى أن تاريخ مصر قبل ثورة 1952م كان لعبة سيئة بين الباشوات والإنجليز والملك من ناحية والشعب المصرى من ناحية أخرى.

باشوات وسوبر باشوات


لم يتوقف اجتهاد الدكتور حسين مؤنس عند هذا الحد بعد أن قرر في مقدمة كتابه باشوات وسوبر باشوات، أنه استطرد لدراسة عصر جمال عبد الناصر فوجد نفسه في ظلام دامس، فالعصر الناصرى -حسب رؤيته- عصر بلا وثائق ولا ميزانيات ولا كتابة ولا قراءة ولا حساب، وخاصته أنه كان عصرا للصراع بين عبد الناصر وآخرين.

يقول مؤنس: «بدأ الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب، ثم صراع بين عبد الناصر وزملائه، وقد تمت تصفيتهم واحدا واحدا إلا عبد الحكيم عامر، حيث ظل الصراع بينهما طويلا ومريرا، وكل منهما يتمترس خلف قلاع وحصون أوهى من خيوط العنكبوت» على حد وصفه.


أثناء هذا الصراع الغريب والشاذ والمدهش تنتقل السلطة إلى طبقة غريبة من فئران السياسة، يسيطرون على مصائر الناس بالخبث والمكر والجهل والجشع، وتحت ستار حماية النظام والثورة المضادة وغيرها من الأكاذيب ارتكبوا أعمالا عدوانية على الشعب وأمواله وقيمه.


وحسب الدكتور حسن مؤنس، نهبوا الأموال بلا حساب، وأوهموا رئيسهم أن شعب مصر كله يتآمر عليه، وأن القتلة والمغتالين يتربصون به عند كل منعطف، فحبسوا من حبسوا وعذبوا من عذبوا، وفي النهاية كان ما كان وما وصلت إليه مصر من كوارث.


وعندما أصدر الدكتور حسين مؤنس كتابه صدَّر فقرة أمام كل فصل قال فيها: «خلال 150 عاما من تاريخ مصر (1805-1952م) حكم بلادنا الباشوات، وملكوا كل شيء فيها: السياسة والجاه وصدارة المجتمع والقصور والأموال والضياع، وفى يوليو 1952م انتزعت منهم الثورة السياسة وصدارة المجتمع، ولكن من الذى استولى على القصور والأموال والضياع؟ السوبر باشوات: باشوات بلا ألقاب، وأشراف بلا شرف، وناس بلا إنسانية، ومواطنون بلا وطنية!

 


ورغم أن الدكتور حسين مؤنس يعتبر ثورة يوليو أكبر حادث فى تاريخ مصر بعد ثورة 1919م، وأنها فتحت لمصر آفاقا واسعة، وأنها قدمت نماذج للوطنية والصدق والإيمان، وقدمت لمصر خدمات جليلة أعظمها جلاء الإنجليز عن مصر، إلا أن الظروف العسيرة التى أحاطت بها أتاحت الفرصة لجماعات انسلت في الظلام، وسرقت واعتدت ونهبت، فهناك أموال بلا حدود كانت هنا قبل الثورة وهى ليست هنا الآن. وكل إنسان أدرى بما فعل!

الجريدة الرسمية