رئيس التحرير
عصام كامل

الشيخ علي محمود.. مؤسس دولة التلاوة المصرية.. حنجرته جمعت كل آلات الطرب.. وصوته كان يعطل المرور في السماء

الشيخ علي محمود،فيتو
الشيخ علي محمود،فيتو

أنْ يُفجعَ المرءُ بناظريه فيرتدَّ ضريرًا، بعدما كان بصيرًا، ويُغلقَ عليه العمى سراديبَه المُوحشة، فهذا ابتلاءٌ ينوءُ بفظاعته صناديدُ الرجال. وإن كان هناك مَن يستشعرُ فى نفسه براكينَ الغضب، ويشعرُ أنَّ حياته صارتْ مُؤجلة أو بلا قيمة، فهناك أيضًا مَن لا يرفعُ الراية البيضاءَ أو يُعلنُ الاستسلامَ أو يخشى المواجهةَ، بل يرى أنه فى حربٍ ضروسٍ يجبُ أن يحسمَها لنفسه فى النهاية، حتى يخرج منها مُظفرا مُنتصرًا. ولعلَّ هذا ما فعله القارئ الشيخ علي محمود، الذي تحلُّ ذكرى وفاته الثمانون اليوم، حيثُ خرجَ من تلك المعركة مُظفرًا مُنتصرًا، ولم تفلح رياحَ اليأس الهوجاءِ في دكَّ معاقل توازنه، وإلقائه فى هوَّة الضياع والقنوط وعدم الرضا عما كتبته له الأقدار.

وها هو ورغم رحيله قبل 80 عامًا بالتمام والكمال، حيث رحل في العام 1943 وليس 1946 كما هو شائع بحسب مؤرخ دولة التلاوة المصرية المستشار هشام فاروق، فقد تمكن الشيخ علي محمود من تخليد اسمه وسيرته، وسوف يبقى ذكرُه في قوائم الخالدين، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، جزاءَ إخلاصِه للقرآن الكريم وإتقان تلاوته تجويدًا وترتيلًا. ولعل احتفاء منصات التواصل الاجتماعي، ومعظم روادها من الشباب، بذكرى الشيخ علي محمود اليومَ، دليلٌ عمليٌّ وواقعيٌّ على ذلك، وهو ما يؤكد أن الموهبة أطول وأعظم خلودًا من العُمر.

النشأة.. وحادث أليم يُفقده بصره

وُلد الشيخ علي محمود في العام 1878 بالقاهرة لأسرة فقيرة، وأصيب صغيرًا بحادث أودى ببصره كاملًا.

لم يستسلم الطفلُ الصغيرُ لهذا الابتلاء المبكر جدًا، لكنه اتجه إلى حفظ القرآن الكريم الذي أنار بصيرته وأضاءَ فؤادَه.

درسَ الفتى الفقه، كما تعلمَ الموسيقى، وعرف ضروبَ التلحين والعزف وحفظ الموشحات، وتلا القرآنَ الكريمَ في المساجد حتى ذاع صيته، وطبقتْ شهرتُه الآفاقَ بعدَ ذلك.

أصبح "محمود" قارئًا كبيرًا يتلو القرآن في المسجد الحسيني الذي تشهدُ جنباته ومآذنه على موهبته الربانية، وربما كانت أوفر حظًا من غيرها؛ لأنها استأثرت به مؤذنًا وقارئًا ومنشدًا، كما أصبح قارئًا للعائلة الملكية، حيث تلا القرآن الكريم في حفل ذكرى زواج الملك فاروق والملكة فريدة بدار الأوبرا الملكية، وأنشد في عقد قران شقيقة الملك فاروق وولي عهد إيران.. وبعد قليل سوف نقرأ تعليقًا مدهشًا للشيخ عبد العزيز البشري يصف فيه روعة أذان الشيخ علي محمود بالمسجد الحسيني، وهو ما يعكس ذائقة الأول وروعة الثاني وعظيم موهبته.

 

سيدُ القراء وإمامُ المنشدين

الشيخ "على محمود" هو أحدُ المؤسسين الحقيقيين لدولة التلاوة المصرية التي أشرق نورُها على العالم الإسلامي في مطلع القرن الماضي أو قبله قليلًا، ومن خلاله وتحت رعايته وفي كَنفه، خرجت أسماء أخرى لامعة في فنون التلاوة والإنشاد، حتى صار معروفًا في عصره بأنه "سيدُ القراء وإمامُ المنشدين".

أدهشتْ موهبة الشاب اليافع أبناء زمانه وكلَّ مَن استمع إلى صوته، حتى أنَّ الأديب الراحل محمد فهمي عبد اللطيف وصفه يومًا قائلًا: "كان الشّيخ علي محمود سيّدَ المنشدين على الذكر، والمُغنين للموالد والمدائح النبوية، وكأنِّي بهذا الرجل كان يجمعُ في أوتار صوته كلَّ آلات الطّربِ، فإذا شاءَ جرى به في نغمةِ العود أو الكمان، أو شدا به شدوَ الكروان، وقد حباهُ اللهُ لينًا في الصوت، وامتدادًا في النَّفَس".

درس الفتى النابه الفقه على يد الشيخ عبد القادر المازنى، وتعلم الموسيقى على يد الشيخ إبراهيم المغربى، وعرف ضروب التلحين والعزف وحفظ الموشحات الغنائية، كما درسها أيضًا على شيخ عصره وأستاذ جيله محمد عبد الرحيم المسلوب.. كما يذكر المؤرخ والناقد الفني الكبير زكي مصطفى.

اعتماد الشيخ علي محمود بالإذاعة

الثالث من يوليو في العام 1939، كان يومًا فارقًا في حياة الشيخ "علي محمود"، عندما تمَّ اعتمادُه قارئًا بالإذاعة المصرية، حيث تحتفل به شبكة القرآن الكريم بذكراه على مدار اليوم، وهي الخطوة التي ربما كانت سببًا رئيسًا في خلود صوته إلى الآن، وهي فرصة لم يحظَ بها قراء أكابرُ عاصروه أو سبقوه، مثل: الشيخ أحمد ندا، الشيخ محمود القيسونى، الشيخ حنفى برعى، والشيخ حسن الصواف الذين يُنظر إليهم باعتبارهم المؤسسين الحقيقيين لدولة التلاوة المصرية، ولكنهم لم يعاصروا نشأة الإذاعة المصرية.

ولأنه كانَ مدرسة أو معهدًا أو جامعة بذاته، فإنَّ الشيخ "علي محمود" كان مُعلمًا وملهمًا لأجيال متعاقبة من الموهوبين والنوابغ، حيث تتلمذ على يديه: الشيخ محمد رفعت، والشيخ طه الفشني، والشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد الفيومي، ومن المطربين والموسيقيين: الشيخ زكريا أحمد والموسيقار محمد عبدالوهاب، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم وأسمهان.. كما حكى الدكتور علي جمعة.

 

كيف كان صوته يُعطل المرور في السماء؟!

ولأنه كان استثنائيًا، فإن مبدعًا استثنائيًا مثل الشيخ عبد العزيز البشري وصف صوتَ الشيخ علي محمود  قائلًا: "كان صوته من أسباب تعطيل المرور فى الفضاء، لأنَّ الطيرَ السارحَ يتوقفُ إذا استمعَ لصوته"، في إشارةٍ منه إلى جمال صوته وبهائه الذي يتوهج حتى تصل أصداؤه إلى آفاقِ السماء، فتُربك الطيور السابحة في الفضاء التي تتوقف رغمًا عنها؛ لتستمعَ وتتمتعَ وتُسبحَ اللهَ في ملكوته {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. 

 

تسجيلات محدودة.. ولكن خالدة 

ولأنَّ الشيخ علي محمود رحلَ قبل ثمانية عقود كاملة، وقبل الثورة التكنولوجية الهائلة، فإن ما تبقى من تلاواته وموشحاته وابتهالاته يعد محدودًا للغاية، ولكنه يبقى كاشفًا عن موهبة فطرية غير عادية.

تتضمن التسجيلات القرآنية التي تركها الشيخ علي محمود، ولا تزال تُذاع عبر الإذاعة المصرية تلاواتٍ من سور: يوسف، الكهف، الأنفال، مريم، الأنبياء، القيامة وقصار السور.

وبخصوص الأناشيد والموشحات والأغاني، فتشمل: أشرقْ فيومُك ساطعٌ بسّام، أدخل على قلبي المسرة والفرح، تِه دلالا فأنت أهل لذاكا، خلياني ولوعتي وغرامي، السعد أقبل، هتف الطير بتحلال الصبا، أهلًا بغزال، أنعم بوصلك، سل يا أخا البدر، يا نسيم الصبا، فيا جيرة الشعب اليماني، طلع البدر علينا، شكوت لخاله لما جفاني.. وذلك من واقع سجلات الإذاعة المصرية.

 

رحيل وحزن وحداد.. وخلود

عندما أتمَّ الشيخ "علي محمود" عامَه الثامنَ والستينَ، زاره ملكُ الموت قابضًا، بعدما تركَ ثروة إبداعية هائلة من التلاوات القرآنية المجودة، فضلاَ عن العديد من الأناشيد والموشحات والأغاني، فضلًا عن الأذان الذي تحوّلَ عبر حنجرته إلى تحفة فنية خاصة. 

 وبوفاةِ القارئ الشيخ "علي محمود"، فقدَ العالمُ الإسلاميُّ عَلَمًا خفاقًا وبلبلًا صداحًا، تشهد على ذلك التلاواتُ القرآنية والابتهالاتُ والتواشيحُ الدينية المُتاحة في أرشيف الإذاعة والتليفزيون ومنصَّات التواصُل الاجتماعي.

ورغم الرحيل البعيد، ورغم التسجيلات المحدودة إلا إن مدرسة الشيخ علي محمود لا تزال باقية، حيث يتتلمذ من خلاله وعلى صوته أجيال متعاقبة من القراء والمنشدين جيلًا بعد جيل.

نقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم، أسعار الدولار، أسعار اليورو، أسعار العملات، أخبار الرياضة، أخبار مصر، أخبار الاقتصاد، أخبار المحافظات، أخبار السياسة، أخبار الحوادث، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي، الدوري الإيطالي، الدوري المصري، القسم الثاني، دوري أبطال أوروبا، دوري أبطال أفريقيا، دوري أبطال آسيا، والأحداث الهامة والسياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

الجريدة الرسمية