رئيس التحرير
عصام كامل

نصوص شتوية بنار الفرن

في الشتاء، يستيقظ الحنين للماضي كضيف دافئ يحمل ذكريات لا تسقط بالتقادم. تتلألأ الشجون في قلوبنا وتنبض بقوة، فذلك الفصل البارد يمتلك قدرة فريدة على إنعاش الأحاسيس العميقة وإشعال النار في دواخلنا.

تتعرض ذاكرتنا للشتاء، فتتجدد الحكايات وتستيقظ الذكريات الخالدة التي تحمل في طياتها جمال اللحظات الماضية. فالبرودة والهدوء الذي يعم المكان يشجع القلم على الخروج من سباته والبوح بما يخفي. ينساب الحبر على الورق، محملًا بكلمات تنبض بالحياة والشغف.

وهكذا تتولد الحكايات الشتوية الساخنة، تروي قصصًا مليئة بالألوان والمشاعر. تصف الجمال وتنعش الأرواح بأجواء الدفء والمحبة.

أنفاس البيوت

حين يخرج الرجل إلى عمله في كل صباح، يترك حسه يتردد في أركان البيت، فيما تغزل الأم من صوته خيوطًا تغمسها في روحها لتصنع منها أردية تؤمن لأطفالها الدفء، وتفصل من نظراته أحذية تحمي أقدامهم الصغيرة من حصى الأيام الباردة، وتطعمهم حساءً أعدته من أنفاس أبيهم الطازجة.

يمكن للرجل أن ينيب عنه طيفًا يحرس البيت من الخارج، فيصير سورًا من فولاذ، أما الأم فلا يستقيم بيت إلا بوجودها المادي الممتزج كليًا بروحها الساخنة دومًا كتيار كهربائي مجدول من قرص الشمس.

يستطيع الرجل أن يجلب كل مكونات العيش بين كفيه، لكن الأم وحدها يمكنها أن تنفخ في هذه الأشياء لتدب فيها الحياة..

هبات إلهية منحت حصرًا للنساء، كي تصبح الحجارة بيوتًا وسكنًا... كي يفرح الرجال كالأطفال... وكي ينضج الأطفال كسنابل ممتلئة تحت القمر اللامع في أبريل.

نار المنقد

في تلك الليلة الشتوية الباردة، حيث تعانقت الأرواح حول نار المنقد المشتعلة، تجمعت خمسة أرواح صغيرة، أربعة أطفال في مقتبل العمر، والخامسة أمهم الحنونة.. الابتسامة ترتسم على وجوههم، وهم يتلقون حنانها الدافئ عبر أكواب الشاي العطرة بالريحان والخبز المحمص مع الجبن المتبل بالرضا.

كانوا يتبادلون الأخبار والضحكات، مستمتعين بأمسيتهم المليئة بالقصص والمواقف اليومية التي جمعتهم في المدرسة وفي أحياءهم مع جيران البنايات المتدثرة ببعضها البعض.. تغلغلت هذه القصص في قلوبهم وأرواحهم، حتى أصبحت تنمو كالنباتات الخضراء المورقة، تتصاعد وتتسلق الجدران كشجرة لبلاب، وتخلق سماءً مرصعة بالنجوم الخضراء وتناثر الشهب المتلألئة.

كانت تلك اللحظة سحرية، إذ تحوّلت الغرفة إلى عالمٍ خياليٍ مليء بالجمال والأمل.. كل حكاية ترتفع إلى الأعلى، تحمل معها أملًا جديدًا وابتسامةً مشرقة. ومع ذلك السحر، انتشرت السعادة والتفاؤل في قلوبهم، مثل الألوان الزاهية التي تزينت بها السماء المرصعة.

وفي الصباح، عندما استيقظوا من حلمهم الساحر، وجدوا أن حكاوي الليل قد تحققت فعلًا. فقد تحولت إلى نباتات مزدهرة، تزينت بأزهارها الجميلة وأوراقها الخضراء اللامعة. وكأنها تذكير لهم بأن الأحلام يمكن أن تتحقق وتنمو كالنباتات، إذا كانت مغذاةً بالحب والأمل.

البطاطا في أنفي

رائحة البطاطا المشويةِ عالقةً في أنفي، تحملني إلى شتاءاتٍ بعيدةٍ، حيثُ صقيعُ الصباحِ وصوتَ مألوفٌ لبرنامجٍ إذاعيٍ صباحيٍ.. نداءاتُ الباعةِ في الشوارعِ وأبوابِ المحالِ وهيَ ترتفعُ.. أزيزُ السياراتِ والأجراسِ بينَ الحصصِ.. معلمةٌ بتنورةِ زهريةٍ وجنايني يهذبَ شجرةَ وناظرَ مدرستيْ يجلس في الحوشِ يطالعُ البخارُ المتصاعدُ منْ كوبِ الشايِ الساخنِ..

في الفصلِ، تجلسَ هناءْ بشعرها الأسودِ الملمومْ بإحكامٍ تتخللهُ فراشاتٌ ملونةٌ.. أسافرُ بعيني في شالِ جدتها الذي يحتضنُ كتفيها المكتنزينَ، بينما يداها ترسمُ الكلامَ المكتوب على السبورةِ في كراسةٍ تتسعُ المسافةُ بينَ سطورها لأحلامِ فتى خجولٍ حرفتهِ الوحيدةِ هيَ التأملُ في عينينِ عسليتينِ عميقتينِ..

 

 

يناديني المعلمُ لكنَ صوتهُ أضعفَ منْ أنْ يعيدنيَ منْ خياليٍ إلى عالمهِ الضيقِ.. يعيدَ النداءُ مراتِ ومراتِ إلى أنْ أنتبهَ لصراخهِ، فتضحكُ هناءْ ضحكةً مهرةٍ يذوبُ لها الفرسانُ.. أسافرُ في صوتها ذي اللونِ الحادِ الزاهي.. يصرخَ المعلمُ، تضحكَ هيَ، أحلمُ أنا.. وتبقى رائحةَ البطاطا عالقةً في أنفي الذي تعتليهُ فراشةٌ برتقاليةٌ.

الجريدة الرسمية