رئيس التحرير
عصام كامل

اصغ إلى صمتي.. فالوجع لا يحكي

من يجيدون الإصغاء هم فنانون بالفطرة، أعرف امرأة كانت تغزل من حكايا العابرين ألحفة تدفئ بها صغارها في الليالي الباردة، وتصنع من الفضفضة أقراطا تتزين بها الصبايا، كما أنها شيدت بين ذراعيها دارا لاستضافة المشردين في القصص التي سمعتها من ركاب القطارات الليلية، وفي صدرها ثقب يطل منه القمر، على الكلمات المحبوسة في قلوب لا تراها الشمس. 

 

تلك المرأة حين ماتت تحولت أذنيها إلى فراشات من نور، تطير إلى حيث لا يمكن للآذان أن تصل، لتستمع إلى آهات المكلومين، وتفرغ صدورهم من وجع الكتمان. تلك المرأة كتبت على شاهد قبرها: إن الإصغاء حضن..

فن الإصغاء

فن الإصغاء يعني أن تستمع بقلبك.. فقط تستمع لمن يحكي دون تعليق أو تأنيب أو نصح أو مواساة، فالمواساة الغشيمة تؤلم أكثر من الجرح نفسه، والذي يبوح لا يبحث عن حل بقدر رغبته في أن يزيح عن صدره هما مكتوما.. وأنت ستتعرف على قصتك الحقيقية للمرة الأولى، حين يستمع لها من يجيد الإصغاء لصوتك الداخلي.

التعافي الكاذب

عزيزتي، أكتب إليك الآن وقد تعافيت تماما منك، فلم أعد أحلم بك، ولا أقضي يومي في استرجاع ذكرياتنا سويا، كما أنني لا أفكر فيك، ولا أراك أمامي كلما أغمضت عيني، لقد نسيت تماما ملامحك حتى إنني أراهن أننا إذا تقابلنا يوما لن أتمكن من التعرف عليك، ولن تلفت نبرة صوتك انتباهي، ولن تميز يدي ملمس يدك إذا تصافحنا، حتى عطرك المفضل إذا شممته لن يكون له تأثيره المعتاد علي..

 

ولا أخفيك سرا إذا قلت إنني محوت كل الرسائل التي تبادلناها والصور التي جمعتنا والأشياء التي اشتريناها معا، حتى الأماكن التي التقينا فيها يوما ولو صدفة محوتها من الخريطة.. حقا لم يعد لك أثرا في حياتي..

وأخيرا، يطيب لي عزيزتي أن أخبرك أنني لم أعد ذلك الرجل الذي عرفته قبل سنوات، لقد تغيرت تماما، لكنني فقط لم أتعافى بعد من الكذب..

مخالفة سير

حين يلف الكون الضباب تنعدم الرؤية، وقد تدفع حياتك ثمنًا، فحتما ستدهسك سيارة يقودها قاتل غير مبال بك، سيراك مجرد شبح في طريقه، ولن يكلف رجل المرور نفسه عناء إيقاف المجرم، لكنه ربما يسجل في دفتره مخالفة لأنك كنت تسير في عكس الاتجاه، وساعتها لن تكترث أنت لنوع السيارة التي أنهت حياتك سواء كانت أجرة أم ملاكي.. 

 

ستتعدد السيناريوهات والحكايات، وستبقى حقيقة واحدة.. أنك ميت وقاتلك حر طليق وإخوانك لا يملكون سوى النحيب وهم يصطفون في طابور طويل ينتظر كل منهم دوره من أجل ميتة آمنة.

غراب في بيتي

كان الغراب الضخم يخطو فوق سجادة من أوراق الشجر اليابسة في الحديقة المهجورة قبالة بيتنا، مصدرا أزيزا مخيفا، متقدما نحوي، حيث انزويت أنا في ركن من غرفتي، التي يطل شباكها على الشارع المزروع بالقطط النافقة..

 

دخل الغراب الغرفة، فأغلق الباب وسد كل النوافذ، فصار المكان مثل كتلة سواد كونية لا أول ولا آخر لها، بينما قلبي يخفق كغسالة تجفف الملابس.

 

وفجأة لمعت عينا الغراب، الذي بدا في هيئة شبح يكاد رأسه يلامس السحاب، وفتح منقاره عن آخره، ثم هم بقضم رأسي، غير أنه حين أغلق مصراعي ذلك المنقار شعرت بأسنانه تتفتت حول عنقي.

 

إلى جواري جلس الغراب الشبح يبكي كطفل تائه، ثم راح يحكي بصوت ممزوج بالنحيب، عن طفولته العجيبة التي لا تقل بؤسا عن طفولتي أنا، فتنبهت إلى أن هناك تشابها بين قصتينا، وأنه لم يستهدفني عن طريق الصدفة، بل هو قدري.

 

عن طيب خاطر، اقتلعت رأسي من فوق كتفي، ومنحته للغراب الباكي، والذي أكله بشهية.. وددت لو كان بإمكاني أنا أراه في تلك اللحظة وهو يتلذذ بمذاقي، غير أن ما تبقى من أسنانه المهترئة كانت تطحن جمجمتي وتلتهم عيني في سلام..

الجريدة الرسمية