رئيس التحرير
عصام كامل

الثورة التي أكلت بنيها!

لا تزال ثورة يوليو 1952 مبعث فخر واحتفاء كبيرين.. أما الاحتفاء فله أسبابه التي لا تنسى.. وأما الفخر فله دواعيه التي لا تخفى.. وبين الفخر والاحتفاء هناك من يتحفظ، وله مبرراته ومن يهاجم أو ينتقد وله أيضًا دوافعه وأسبابه.. وفي كلٍ خير؛ ذلك أن الاختلاف في الرؤى والتوجهات والمواقف إنما يثري الأحداث ويكسبها مزيدًا من الحيوية والخلود..

 

فالثورة -أي ثورة في الوجود- هي عمل بشري أصاب فيه من أصاب.. وأخطأ من أخطأ.. وكسب من ورائها من كسب وخسر بسببها من خسر.. وارتفع معها من ارتفع ووقع من وقع.. وطبيعي أن يبني كل توجهاته ومواقفه منطلقًا من مكانه من تلك الثورة.. 

 

لكنها في النهاية نقطة تحول في مجرى التاريخ الإنساني ينبغي ألا تحول قناعاتنا دون الحكم الصحيح عليها، وإنصافها واستعمال أقصى درجات الحياد عند تناولها أو تعريف الأجيال التي لم تعشها بما أسفرت عنه، وما أنتجته من متغيرات ومنجزات أو إخفاقات أو نجاحات حتى لا نلوى أعناق الحقائق أو نعبث بتاريخ الشعوب والأمم.

مكاسب وخسائر


كثيرًا ما تتردد عبارة الثورة تأكل بنيها على ألسنة وأقلام كثيرين في مناسبات عديدة وبصرف النظر عن مدى صحتها.. فإن الأصح في رأيي أن الأبناء أيضا يأكلون ثورتهم أو يختلفون معها.. مثلما حدث في ثورة يوليو 1952 التي  رغم ما حققته في سنواتها العشر الأولى من مكاسب ومنجزات معتبرة فقد اقترفت أخطاء فادحة، وهوت إلى انتكاسات كبرى لولاها لصارت من أمجد وأعظم أيامنا التاريخية.


وإذا جاز لنا أن نقول إن ثورة يوليو أكلت بعضًا من أبنائها.. فإن  بعض بنيها أيضًا اختلفوا معها وانقلبوا عليها، وكانت البداية من أزمة مارس 1953 التي أنهت شهر العسل بين رفاق يوليو واستحال الوفاق بينهم خلافًا واحتدم صراعًا بين الضباط الأحرار صناع الثورة ومفجريها، فانقسموا فريقين..

 

الأول تزعمه محمد نجيب ومعه خالد محيي الدين ويوسف صديق الذين أصروا على الوفاء بالعهد الذي قطعوه للشعب بعودة الجيش لثكناته، وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة وهو ما رفضه قائد الثورة وفريقه الذين كانوا أغلبية في مجلس قيادتها.. ورأوا تمديد الفترة الانتقالية لسنوات أخرى حتى تكتمل أهداف الثورة وتتحقق مبادئها الستة التي قامت لأجلها.


أما مصير الفريق فقد كان مؤلمًا؛ إذ جرت إقالة اللواء (الرئيس) محمد نجيب أول رئيس لمصر وتحددت إقامته في فيللا بالمرج، بينما لزم يوسف صديق بيته معرضًا عن إتمام مسيرته مع الثورة  التي كان أحد أهم أركانها؛ فهو أول من عرّض نفسه للخطر في اللحظات الأخيرة قبل اندلاعها حين اقتحم قيادة الجيش وقتها؛ لإنقاذها من فشل كان هو أول من سيدفع روحه ثمنًا له إذا وقع..  

 

أما فريق جمال عبد الناصر فقد غيب الموت الأخوين جمال وصلاح سالم.. وتقاعد عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم، ثم تجرَّع عامر كأس المنيّة في نهاية أشد مأساوية، أفل من بعدها نجم ناصر القائد الملهم ليخلفه السادات الذي أجبر من بقي من أبناء الثورة على التقاعد واعتزال العمل السياسي!!


ثورة يوليو شأنها شأن ثورات البشر لم تكن منزهة عن الهوى ولا معصومة من الخطأ بل شابتها صراعات وتقييد للحريات، وتفرقت برجالها السبل وتنازعتهم الأهواء والمصالح وتشبث بعضهم بمقاعد السلطة، حتى وقعت هزيمة يونيو 67 فبددت مباهجها ومآثرها وتردت بالوطن كله إلى هوة سحيقة من اليأس والإحباط وفقدان الثقة في كل شيء.. ولولا نصر أكتوبر 1973 ما قامت لمصر وشعبها قائمة.

 


لكنها وللإنصاف والأمانة حققت ما لم يكن يحلم به الشعب المصري وقتها؛ ولولاها ما تملك الفلاحون أرضا ولظلوا أجراء لدى الغير يقتاتون الفتات.. وما تعلم بالمجان أبناء الفقراء ونحن منهم في مدارس تخرج فيها نوابغ كثر.. كما أنها كانت الأكثر إنجازًا وتغييرًا لواقع الناس إلى الأفضل، واقترابًا من طموحاتهم وآمالهم في التحرر والاستقلال.. فهل نجد من يعيد كتابة التاريخ بموضوعية وحياد حتى تعرف الأجيال الجديدة حقيقة ما جرى في مصر وما يراد بها.. وللحديث بقية إن شاء الله؟!

الجريدة الرسمية