رئيس التحرير
عصام كامل

فوضى منح الدرجات العلمية!

ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن إعادة إنتاج الجهل في منظومة التعليم المصري عامة ومنظومة التعليم العالي على وجه الخصوص، ورصدنا في مقالات سابقة كثيرًا من السلبيات التي قادتنا لنقبع في ذيل قائمة جودة التعليم على المستوى الدولي، وخروج عدد من جامعاتنا من قائمة أفضل 500 جامعة في العالم.. 

 

وذلك في الوقت الذي تقدمت فيه بعض الدول العربية على قائمة جودة التعليم، ودخلت جامعاتها ضمن تصنيف أفضل 500 جامعة في العالم، ومنها دول تأسست حديثًا ولم تتجاوز نصف قرن من الزمان، وكنا نتفاخر حتى وقت قريب بأن معلمينا وأساتذتنا هم من علموا أبناء هذه الدول وصنعوا نهضتها التعليمية وفي كافة المجالات.

 

واليوم نتحدث عن قضية مسكوت عنها في منظومة التعليم العالي في مصر، وحاولت كثيرًا تأجيل فتحها لأنني أعلم علم اليقين أنها سوف تنكأ جراحًا وتترك ندوبًا عميقة في جسد منظومة التعليم العالي المصري، وسوف تظهر ثقوب كثيرة في ثوب الجامعات المصرية وسوف تكشف عورات كثير من الأساتذة الذين من المفترض أنهم علماء يقودون مسيرة تأهيل شباب الباحثين الساعين لتلقي العلم..

جريمة في حق العلم

لكن وكعادتي دائمًا لم يسمح لي ضميري بالسكوت على ما يرتكب في حق العلم من جرائم داخل المؤسسة الأكاديمية المصرية، لذلك سوف أحاول خلال السطور القادمة الإضاءة على ملف من الملفات الهامة والذي يشكل جزء من سلبيات منظومة التعليم المصري.

 

وقبل الدخول في عرض الملف أود التوضيح أنني سوف أتحدث بالأدلة والمستندات والبراهين عن واقع عايشته بشكل شخصي على مدار أكثر من ثلاثة عقود طالبًا في الدراسات العليا، ثم مدرسًا، فأستاذًا مساعدًا، فأستاذًا في تخصص علم الاجتماع، فمنذ كنت طالبًا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه وأنا أتعامل مع العديد من زملائي في نفس المرحلة..

 

وبالطبع تعاملنا مع العديد من الأساتذة، واكتشفت منذ البداية أن كثير من الأساتذة يتعاملون مع العلم كوظيفة وأكل عيش، لذلك لا يعطون طلابهم وتلاميذهم الاهتمام الكافي لتأهيلهم وإعدادهم لإنجاز رسائلهم العلمية، واكتشفت أن كثير من الأساتذة لا يقدم أي نوعًا من المعرفة أو الإرشاد الأكاديمي لطلابه، وعلى الطالب أن يتحول بعيدا عن وظيفته الأساسية كي يحصل على الدرجة العلمية..

 

وكان على الطالب المجتهد والساعي بجدية لتحصيل العلم إما بالبحث والتنقيب عن أستاذ نادر يرعى الله حق رعايته ويعرف حق الاستاذية، أو أن يعتمد على نفسه ليكون التلميذ والأستاذ في آن واحد، وبالطبع وكما كان الأستاذ الحق نادرًا كان الطلاب المجتهدين والساعين بجدية لتحصيل العلم نادرون أيضا..

 

 وبالطبع لم يسلم هؤلاء الأساتذة الجادين ولا الطلاب من المحاربة والهجوم عليهم وإعاقة طريقهم ونعتهم بأبشع الأوصاف، وفي ظل منظومة تعليم لا تعلي من قيمة العلم والموهبة والإبداع يجد هؤلاء المتميزون أنفسهم في موقف متناقض للغاية، فهم مضطرون أن يتعاملوا مع هذه المنظومة الفاسدة، وهنا تنشأ معاناتهم الحقيقية.

 

فعندما أصبحت أستاذًا مساعدًا وأصبح من حقي المشاركة في منح الدرجات العلمية عبر عملية الأشراف والمناقشة، اكتشفت أن العملية برمتها عبارة عن تمثيلية هزلية، لدرجة أنني أصبحت أشعر بأنني أشارك في جريمة، فكثير من الأساتذة المشرفين لا يتابعون طلابهم أثناء إعداد رسائلهم، وكثيرون يطلبون الرسالة كاملة دفعة واحدة، وكثير منهم لا يقرأ سطرًا واحدًا في الرسالة المشرف عليها..

 

وحين يشكل لجنة الحكم والمناقشة يأتي بأصدقائه ومن على شاكلته دون مراعاة للكفاءة أو التخصص الدقيق، وكارثة الكوارث عندما يضطر أن يأتي بأستاذ جاد فيقوم بقراءة العمل بجدية وموضوعية، وعندما تبدأ المناقشة الجادة ينزعج المشرف وتلميذه، وعندما تأتي لحظة تحديد منح الدرجة والتقدير يصر المشرف على حصول تلميذه على أعلى تقدير دون وجه حق، وعندما يعترض الأستاذ الجاد يقال له أنك تمنح الدرجة والتقدير للمشرف وليس للطالب، وعندما يرفض يقال له لن نأتي بك للمناقشة مرة أخرى.

 

وبالطبع أصبح مثل هؤلاء الأساتذة يشرفون بالمخالفة للقانون والأعراف الجامعية على عشرات الطلاب في وقت واحد فهناك مشرف لديه أكثر من50 طالب، فكيف سيتابع كل هذا الكم، وهل بالفعل لديه الوقت والجهد للمتابعة والقراءة، هذا بخلاف من يذهب لمناقشاتهم فكل يوم موجود بجامعة مناقشًا لرسالة.. 

 

 

والغريب في الأمر أنني لم أشهد رسالة واحدة تأخذ أقل من تقدير ممتاز، وكأن كل طلاب الدراسات العليا في بر مصر قد تحولوا إلى عباقرة، وبالطبع فقدت الدرجات العلمية قيمتها الحقيقية، فكثير من حملة الماجستير والدكتوراه جاهلون بمعنى الكلمة، وبالطبع يواصلون طريقهم لنيل الدرجات الأعلى حتى يصبحون أساتذة وبالتالي لن يملكوا علمًا ليقدموه لطلابهم والنتيجة النهائية هي إعادة إنتاج الجهل، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

الجريدة الرسمية