رئيس التحرير
عصام كامل

السلطان في بيته الثاني

من زار مسقط يدرك لماذا تظل الصورة الذهنية لسلطنة عمان فى المنطقة الإيجابية دومًا، ويعرف لماذا يطلق عليها البعض سويسرا العرب فى أدائها الدبلوماسي الذى يتسم بحيادية قلما تجد لها نظيرًا فى واحدة من أسخن مناطق العالم وأكثرها صراعًا بسبب جغرافيتها السياسية وما تزخر به من خيرات.

 

كنت ولسنوات قريبا من الشعب العماني فى تجربته الرائدة مع بداية عصر النهضة وحتى اليوم، بداية التجربة تابعناها قراءة فى الكتب، ثم متابعة عن قرب بحكم العمل الصحفي، وقد كان لى شرف السفر كثيرًا إلى السلطنة مع احتكاك بنخبة من المثقفين والصحفيين العمانيين، مع دلالات المشاهدات اليومية لمواطن عربي لا يزال قابضا على عروبته بيد من إرادة حقيقية لا يغلفها خداع أو كذب.

 

ومن يتابع عن كثب تفاصيل ما جرى فى سلطنة عمان فى تجربتها النهضوية يدرك أننا أمام معجزة بكل المقاييس، وكيف قفزت دولة من مناطق الضعف إلى عصر القوة، وبهدوء ودون جلبة استطاعت أن تبتني لنفسها مكانة دولية اعتمدت فى مجملها على الاستثمار فى الإنسان.

 

والمواطن فى سلطنة عمان يحيا تجربة تحديث أمسكت بكل تفاصيل خصوصيتها دون أن تفقد خيوط المستقبل فى التعاطي مع الحياة فى كل مجالاتها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وتعليميا، فبدا أن النموذج العماني بالفعل متفرد فى مخرجاته التى أتت ثمارها بنجاح.

 

وقد ظلت عمان في تجربتها الدبلوماسية متوافقة مع ما عايشته فى تجربة النهضة، وأصبحت مهمة فى محيطها الهادر بكل صنوف الصراعات، فلم تتورط يوما فى قضية حدودية، ولم تتورط يوما فى صراع على الزعامة أو الريادة، حتى صارت رائدة العمل الدبلوماسى الهادئ، والذى يعتمد على احترام سيادة الدول ومواقفها دون تدخل أو محاولة تغيير بوصلتها.

زيارة السلطان هيثم بن طارق الأولى إلى القاهرة

لم تخرج سلطنة عمان من القاهرة عندما خرج كل العرب بعد معاهدة كامب ديفيد، وكان للسلطان قابوس -عليه رحمة الله- رأيه السديد، فمن قاتل وفقد أبناءه فى حروب الدفاع عن الأمة يحق له أن يتخذ من المواقف ما يحمي به شعبه ويسترد أرضه ولا ينازعه فى ذلك منازع.

 

وعندما خرج العرب، كل العرب، من بغداد لم تخرج سلطنة عمان، وظلت على مواقفها مساندة للشعب العراقي، حتى صارت فيما بعد جسر وصول العرب إلى العاصمة العراقية مرة أخرى، ودون ضجيج أو تزيد، ودون أن ترى فى أدائها ريادة رغم أنها تملكت كل أدوات الريادة فى مجال التواصل السياسى والإنسانى فى كل أزمات العرب.

 

خرج العرب، كل العرب، من سوريا إلا سلطنة عمان، بقيت مع الشعب السورى تسانده فى محنته، وتبحث كلما لاح الأفق فى مبادرات من أجل حفظ الــدم السورى رغم الصعوبات التى واجهت دبلوماسية الحوار حتى عاد الجميع إلى دمشق بعد سنوات من الغربة والاغتراب.

 

خرج العرب، كل العرب، من طهران وظلت سلطنة عمان على عهدها ووعدها ودبلوماسيتها الهادئة فى إدارة الأزمة التي كادت تعصف بما تبقى من استقرار فى منطقة لا ينقصها صراع فى الأســاس، حتى صارت عواصم المحيط الخليجى تدرس وتتدارس فكرة الحوار، فعاد من عاد وسيعود الباقون كل حسب تفاصيل مفاوضاته.

 

تأتي زيارة السلطان هيثم بن طارق إلى القاهرة فى وقت يدور فيه الحديث عن حوار بين مصر وإيران، وهو ما دعا المحللين إلى القول إن السلطان جاء للقاهرة وفى يده بعض مفاتيح مغاليق الحوار بين بلدين يتشابهان حضاريا ويتقاسمان أدوارًا مهمة إقليميا ودوليا.

 

والسلطان هيثم بن طارق واحد من أعمدة تجربة النهضة، فقد تبوأ العديد من المواقع فى السلك الدبلوماسى، وهــو فى ذات الوقت المكلف رئيسا للجنة العليا التى عنيت بوضع استراتيجية عمان 2040 م، وأسندت إليه أيضًا مهمة التنفيذ منذ نهاية عام 2013.

 

وجود السلطان هيثم بن طارق فى زيارته الأولى إلى القاهرة فى هذا الوقت تحديدا يحمل من المضامين المهمة الكثير، سواء على مستوى العلاقات الثنائية التى لم يعكر صفوها شيء منذ بدء النهضة مع مطلع السبعينيات وحتى يومنا، إضافة إلى التواصل على أعلى المستويات بين البلدين فى كل ما يخص الأمة العربية.

 

 

ومع استمرار تجربة عمان الدبلوماسية وما فرضته على الجميع من احترام وتقدير لدورها يظل الأمــل قائما فى ارتفاع درجــة التعاون الاقتصادى بين البلدين بما يليق ومستوى العلاقات بين الشعبين، والذى يمتد إلى عصور قديمة قدم الإنسان العمانى والمصرى فى محيطهما.

الجريدة الرسمية