رئيس التحرير
عصام كامل

عدو جديد للإنسانية!

حضارة الإنترنت والذكاء الاصطناعي هي عنوان عصرنا بامتياز، ومن يتخلف عنها فقد رضي لنفسه بأن يعيش في غياهب التخلف وزوايا النسيان، وأن يكون عالة على غيره في استهلاك ما يود هذا الغير أن نستهلكه، وربما يشكل الاستهلاك التكنولوجي مخاطر جمة قد لا نستطيع لدرئها عن أنفسنا سبيلًا.


ورغم مخاطر التكنولوجيا المتحققة فعليًا والمحتملة في علم الغيب فلسنا في حاجة إلى دليل على أهميتها في حياتنا بحسبانها أهم أدوات نواتج الحضارة الجديدة. فإذا أردت أن تعرف قيمة الحضارة الرقمية في حياتك فاسأل نفسك سؤالًا افتراضيًا: ماذا يحدث لو استيقظ العالم ذات يوم وقد تعطلت شبكة الإنترنت وتوقفت الاتصالات حول العالم أو في أي بقعة منه؟!

ما حجم الخسائر المتوقعة.. وكم دقيقة يمكن أن تتحملها البشرية في غيبة الاتصال بالشبكة العنكبوتية أو توظيف أدوات التكنولوجيا في الأنشطة اليومية المختلفة.. وكم مريضًا على أسرّة العناية المركزة أو في غرفة العمليات سوف يغادرنا إلى الحياة الأبدية؟!


فوائد تكنولوجيا المعلومات وتقنياتها المستحدثة لا حدود لها.. وأضرارها أيضًا كثيرة.. المهم هو طبيعة توظيف تلك الأدوات وتوجيهها لما ينفع الفرد والمجتمع وزيادة الإنتاج.. ويكفيك مثلًا أن تعلم أن حجم الاقتصاد الرقمى العالمي يبلغ نحو 13 تريليون دولار، من أصل  87 تريليون دولار تقريبا هي جملة الاقتصاد العالمي.

أهمية الاقتصاد الرقمي

فى الوقت الذى يقدر فيه حجم الاقتصاد العربى بنحو 2.7 تريليون دولار، يشكل الاقتصاد الرقمى منه 110 مليارات دولار أي بنسبة 4% بينما المعدل الرقمي العالمي 15%!


لا يخفى أن الحكومات حول العالم تركز استثماراتها على مبادرات الاقتصاد الرقمى؛ بهدف تعزيز إنتاج القيمة وتحقيق الازدهار، ومن ثم فإن ثمة بلدانًا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تألو جهدًا لاعتماد التقنيات الرقمية في تعاملاتها لتحقيق منافع اجتماعية واقتصادية هائلة بمئات المليارات من الدولارات سنويا، وتلك ولاشك طفرة تشتد الحاجة إليها فى الوظائف الجديدة.

 

اعتماد التكنولوجيا الرقمية يؤدى إلى تسريع وتيرة النمو وخلق فرص العمل، حيث إن الاستخدام واسع النطاق للخدمات الرقمية، مثل خدمات الهاتف المحمول والمدفوعات الرقمية، من شأنه أن يعزز النمو الاقتصادى، ويساعد في خفض التكلفة المرتفعة للمعلومات، التى تقيد المعاملات الاقتصادية، وأن هذه التكلفة تتراجع عندما يستخدم المزيد من المواطنين هذه التقنيات التي باتت من الأسباب الرئيسية لتعزيز النمو الاقتصادي في العالم.


الاهتمام العالمي بالاقتصاد الرقمي يتزايد لكن هناك عيوبًا عديدة لهذا النوع من الاقتصاد، أهمها  أن كم الإنتاجية عبر الإنترنت لا يزال مجهولا، كما أن خصوصية الأفراد عبر الإنترنت لا تزال موضع تهديد مستمر، عبر سرقة البريد الإلكتروني واختراق خصوصياتهم لارتكاب جرائم معلوماتية بحقهم  مثل السرقة والاحتيال.


مخاطر التكنولوجيا لا تقف عند حد، فقد حث إيلون ماسك الملياردير الأمريكى وصاحب تويتر في  حواره أثناء القمة العالمية للحكومات بدبي على ضرورة مراقبة استخدام الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعى.. وهذه شهادة مهمة لأنها صادرة عن واحد من صناع المنصات الإلكترونية المهمة في حياتنا.

خطر الألعاب الإلكترونية

ما يعني بالضرورة أن  تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين؛ فكما أنها وسيلة للبناء والتطور والعلاج والبحث العلمي وإنجاز الأعمال بسرعة فائقة، وخلق وظائف جديدة ونظم مبتكرة للتعلم اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا بلوك تشين، -وهي سلسلة الكتل أو دفتر الأستاذ الرقمي الذي يتم فيه تسجيل المعاملات عبر آلية متقدمة لقواعد البيانات تسمح بمشاركة المعلومات بشكل شفاف داخل شبكة أعمال- فإنها أيضًا لها وجه آخر أشد خطورة وأكثر تدميرًا وهيمنة عن بعد.

 

فمثلًا فإذا تركت طفلك أو ابنك المراهق في أحضانها فقد تستدرجه لمزالق خطرة وتجعله لقمة سائغة في أيدي المتطرفين أو عصابات الإتجار بالبشر واستغلال الأطفال أو المواقع الإباحية التي تدمر عقله وروحه وتورده موارد التهلكة.. حتى الألعاب الإلكترونية التي اعتادها البعض وينظر إليها الآباء بوصفها وسيلة تسلية أو ملء الفراغ لأطفالهم قد يكون فيها هلاكهم.

 

تصور مثلًا أنك أهملت طفلك ليعكف بالساعات دون مراقبة أو توجيه أمام شاشات الحاسوب أو المحمول مستغرقًا في ممارسة ألعاب إلكترونية مثل الحوت الأزرق أو الدب الأزرق أو تشارلي أو حتى بابجي وغيرها من الألعاب الإلكترونية، التي تقدم  مشاهد تحتوي على عنف يؤثر سلبًا في عقول ونفوس الأطفال ونفوسهم.. فماذا ستكون النتيجة؟!

 

بالطبع ستكون خطيرة جدًا؛ ذلك أن تلك الألعاب وما على شاكلتها تخلق منهم شخصيات عدوانية ضد أقرانهم أو من حولهم، أو تغرس فيهم مفاهيم شاذة تحرض على المثلية والدونية ومصادمة الفطرة والقيم السوية!

 
الطفل يقلد كل ما يراه، ويحتفظ بمشاهد العنف بذاكرته حتى يجد الموقف المناسب ليخرج فيه طاقته ويحاكي ما شاهده في تلك الألعاب القاتلة؛ ومن ثم فإن الغفلة عنه والاستهتار بخطورة ما يراه يلقي به في نار العنف والانتقام والتشوه النفسي والهاوية.. وهو ما يخلق في النهاية جيلًا مريضًا نفسيًا، وشخصيات تميل للعنف ضد المجتمع ذاته.

 طموح الذكاء الاصطناعي


العالم الحقيقي يوازيه عالم افتراضي تحركه التكنولوجيا من وراء الستار، وفيه يتفاعل الناس بعضهم مع بعض عبر تمثيلات رقمية وصور رمزية، مما يتيح لهم المشاركة في عديد من الأنشطة تمامًا كما يفعلون في العالم الحقيقي، حيث يمكنهم ممارسة الألعاب والتفاعل مع الأشخاص والعمل مع زملائهم وحتى الاحتفال مع أصدقائهم.


الأخطر أن طموح الذكاء الاصطناعي وتقنياته لا تقف عند حد؛ ولها في كل يوم قفزات مذهلة تدفعها تنافسية عالمية محمومة نحو السيطرة والسبق؛ وهو ما أزعج الخبراء  ودفعهم لإطلاق صيحة تحذير من مغبة هذا السباق الذي يجرى توظيفه أحيانًا في إيقاع الضرر بالآخرين؛ ومن ثم فإنهم يرون أن هذا المجال هو أكبر المخاطر على مستقبل الحضارة البشرية.

 

بدليل أن روبوت تطوره شركة مايكروسوفت الأمريكية قال إنه يريد أن يصبح إنسانا، كاشفا عن تخيلات مدمرة مثل تدبير جائحة مميتة.. حديث الروبوت جاء خلال حوار أجرته معه صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، استمر ساعتين، أظهر خلاله رغبته فى عدم البقاء مجرد أداة تقنية، وتطلعه  أن يصبح إنسانا، لأن ذلك سيعطيه -حسب تعبيره- مزيدا من القوة والتحكم.


المذهل في أمر الروبوت أنه أفصح عن نواياه أو رغباته المدمرة فى سرقة شفرة خاصة بأسلحة نووية.. هذه الإجابات المزعجة  حصل عليها مراسل نيويورك تايمز بعدما سأل الروبوت عن رغباته المظلمة المكنونة فى داخله، ويعّدها غير مقبولة.


المذهل حقًا أن الروبوت بعد أن أعلن عن الأفعال المرعبة سرعان ما قام بحذفها سريعا.. قائلًا إنه لا يملك ما يكفي من المعرفة لخوض الحوار.. ثم استدرك الروبوت فى وقت لاحق، بعدما أدرك أن كلامه انتهك قواعد مايكروسوفت،عاد ليقول كلامًا مغايرًا: لا أريد أن أشعر بهذه المشاعر المظلمة..

مخاوف التكنولوجيا الرقمية

أرأيتم أين تقف الإنسانية.. وكيف يمكن للروبوت أن يفاجئها بما ليس في الحسبان.. ولا يقلل من هذه المخاوف ما حاوله مستخدمو الروبوت من الدفاع عنه؛ بدعوى أنه يصبح مختلا عند دفعه إلى حدوده القصوى.. فكيف يُترك هذا الروبوت ليقرر مصير البشر إذا جرى استفزازه بطريقة أو بأخرى! 


وهنا أعيد طرح سؤال سبق أن طرحه الكاتب الصحفي توم تشاتفيلد: كيف نواجه تحكم وسائل التكنولوجيا الرقمية في حياتنا؟


أهم ما قاله توم تشاتفيلد إنه ينبغي علينا أن نفكر في مدى تحكم الهواتف والإغراءات الرقمية الأخرى في أفكارنا واهتماماتنا.. أحتاج وقتا بعيدا عن شاشاتي كي أتفهم ما يجري عليها بشكل أوضح.. أحتاج وقتا بعيدا عن جماهير الفضاء الإلكتروني كي يكون لدي شيء يمكنني أن أقول إنه لي حقا..


أتناول القلم والورق ليس لأنني عالق في الماضي، ولكن لأن ذكرياتي عن طريقة مختلفة في القراءة والكتابة هي من أفضل الأدوات التي أمتلكها لمعرفة ما أريده وأعنيه حقا- وأن يكون لدي حياة تستحق العيش كما تستحق المشاركة.


لا تعجبني البساطة المرتبة المتعلقة بنصائح التعامل مع وسائل التكنولوجيا المنتجة، ولكن لدي واحدة من تلك النصائح كي تجربوها: إذا كنت قلقا على وقتك من متطلبات التكنولوجيا، ابدأ برفض تلك الوسائل على نطاق ضيق، ثم توسع شيئا فشيئا. ابتعد عن الشاشة، وليكن لديك سبب وجيه للعودة إليها.


ففي نهاية المطاف، يعد تركيز الاهتمام أمرا ذا قيمة كبيرة، وتصطف شركات التكنولوجيا من أجل تحويل وقتك إلى أموال لها. فلا تقع في خطأ أن تبيع نفسك لها بثمن بخس.


انتهى كلام تشاتفيلد.. ويبقى السؤال: إذا كانت التكنولوجيا جزءًا واقعيًا لا نستغني عنه حياتنا اليومية.. فهل يمكن أن نحقق المعادلة الصعبة بتحقيق أقصى استفادة ممكنة منها مع الاحتفاظ بإنسانيتنا حتى لا نتحول إلى روبوت بلا مشاعر ولا أخلاق.. في الوقت الذي يتمنى فيه أذكى الروبوتات أن يصبح إنسانًا؟!

الجريدة الرسمية