رئيس التحرير
عصام كامل

أبو بكر الشبلي.. زهد في الإمارة فصار تاج الصوفية

من شيم الصالحين، الحرص على التخفي، والبعد عن الأضواء، واجتناب مواطن الشهرة. غالبية الأقطاب، وكبار الأولياء لم يخلفوا كتبًا، وإنما كانوا يرون أن بناء إنسان واحد خيرٌ من تسويد ألف صحيفة، فكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنه، يقول: "كتبي أبنائي". واليوم اخترت تاج الصوفية، شيخ الصوفية الأكبر أبا بكر الشبلي، لأكتب عنه. 

 

كان الشبلي كغيره من رموز التصوف، لا يميل إلى الشهرة، ومجالسة الملوك والسلاطين، فلم يُعرف عنه الكثير، وجزى الله الإمام عبد الحليم محمود، رحمه الله، خيرًا؛ إذ أماط اللثام عن هذا الولي الصالح، والعالم الجليل.. يقول أحمد بن عطاء الله السكندري عن الشبلي: "سمعت الشبلي يقول: كتبت الحديث عشرين سنة، وجالست الفقهاء عشرين سنة".

إرادة حديدية

لم تكن دراسته بالهينة، فقد أخذ نفسه بالعزم والإرادة الحديدية، فحفظ الموطأ عن ظهر قلب، أما القرآن الكريم فإنه لم يكتف بحفظه بقراءة واحدة، وإنما درس أكثر من رواية. وانتهى به الأمر إلى أن أصبح علمًا من أعلام العلماء، وصار صاحب حلقة يدرس فيها ويعظ، ويهدي بقوله وسلوكه، واستحق أن يقال في شأنه: "لم أر في الصوفية أعلم من الشبلي".

 

الشبلي خراساني الأصل، ولد في "سُرَّ من رأى"، ونشأ في بيت عز وجاه، فقد كان والده حاجب الحجاب للخليفة العباسي الموفق بالله، وكان خاله أمير الأمراء بالإسكندرية. نشأ الشبلي ماخذًا من والده قدوة، فاجتهد إلى أن كان حاجبًا لولي العهد، وكان واليًا على "دُنباوند"، ثم "نهاوند"، فالبصرة. ومع ترقيه في المناصب، لم ينصرف عن العلم، والثقافة، والفقه.

 

إلى أن التقى بالشيخ "خير النساج"، وكان من أولياء الله الصالحين، فأعجب بدروسه، وتتلمذ على يديه، وامتلأ قلبه بحب الله، وآثر الآخرة، وتضاءلت الدنيا والمناصب والملذات في عينيه، واستقام في قلبه وروحه وجوارحه.

 

زهد في الإمارة

عاد إلى البلدة التي كان واليًا عليها، فأعلن استقالته من المنصب الرفيع، وتحلل من المظاهر الدنيوية. وتغيرت حاله، فترك مجالسة الأثرياء والأمراءـ وصاحب الشيخ أبا القاسم الجنيد، وأمثاله من الصالحين والزاهدين. عرَّف التصوف بقوله: "بدؤه معرفة الله، ونهايته توحيده".

 

ووصل به الأمر إلى أن أصبح صاحب حلقة يدرس فيها، ويلتف حول التلاميذ والمريدون، ويجتمع حوله العلماء والفقهاء. سُئل عن قول الله تعالى: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، فقال: "ادعوني بلا غفة، أستجب لكم بلا مهلة". وسُئل عن قوله تعالى: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ".. قال: "أبصار الرءوس عما حرم الله تعالى، وأبصار القلوب عما سوى الله".

ومن أقواله، رضي الله عنه: "التصوف ضبط حواسك، ومراعاة أنفاسك".. “ليس من استأنس بالذكر كمن استأنس بالمذكور”.. “سئل ما الزهد ؟ فقال: نسيان الزهد”.. وقال: "الزهد هو تحول القلوب من الأشياء إلى رب الأشياء". وتوفي في ليلة السابع والعشرين من ذي الحجة عام 334 هـ، وقبلها بيوم واحد أبدى رغبة في التوجه للجامع، واستند على بعض تلاميذه، وذهب، فلقي شيخًا، فقال: "غدًا سيكون لنا شأن مع هذا الشيخ".. لكنه مات في ليلتها، فتعجب تلاميذه، لأنه لم يلتقِ ذلك الشيخ ثانية.. 

 

 

ثم ذهب أحدهم يبحث عن "مُغَسِّل"، فدله بعض الناس على بيت رجل متخصص في تغسيل الموتى، فذهب إليه، وطرق الباب فخرج إليه صاحب البيت، فإذا به ذات الشيخ الذي لقيه مع الشبلي بالأمس، وقال إنه سيكون له معه شأن غدًا، فقد كان هذا الشأن هو غسله، رحمه الله. عاش سبعًا وثمانين سنة، ودفن ببغداد، في مقبرة الخيزران، وقبره لا يزال يزار، رضي الله عنه. في ليلة وفاته، أخذ الشبلي يذكر الله تارة، وتارة يردد: "كل بيت أنت ساكنه.. غير محتاج إلى السُّرُجِ"، “وجهُك المأمولُ حجتُنا.. يوم يأتي الناسُ بالحُجَجِ”.

الجريدة الرسمية