رئيس التحرير
عصام كامل

استعدوا لعصر ما بعد الدولار!

ماذا يحدث بعد إعلان روسيا استخدام عملتها في بيع البترول والغاز لأوروبا؟.. نعم اعترض الأوربيون بإيعاز من أمريكا لحماية عرش الدولار وأعتقد إن السلوك الروسى بمثابة عدة صواريخ بدأت من فترة ولا أقول مسامير تدق في نعش الدولار ولكن في عرش القطبية الاقتصادية الواحدة بعيدا عن القطبية السياسية.
 
بدأت التحركات والدعوات من قبل في أكثر من مناسبة وأنا شخصيا دعوت مع الكثيرين إلى ذلك حتى لا نكون جميعا أسرى لسطوة الدولار.. وعلى فكرة أكدت بعض الدراسات أن القوة الشرائية لدولار في منتصف سبعينات القرن الماضي تعادل قوة 40 دولارا في عام 2020. لكن تعالوا معى نتخيل هذا السيناريو الذى أعتقد اقتراب حدوثه.

روسيا تعلن أن كل معاملاتها التجارة مع العالم كله ستكون بعملتها وبعملات الدول المتعاملة معها.. تعالوا نتخيل حجم التأثير الصينى وهى أكبر مصدر ومستورد في العالم لو قررت بكين إن كل معاملاتها ستكون بعملتها وبعملات الدول المتعاملة معها.. أعتقد لو تم ذلك سيصبح الدولار مثل أى عملة وليس السيد الحاكم بأمره، وشيئ فشئ سينتقل العالم إلى عصر الأقطاب المتعددة بدايته تكون في العملة والاقتصاد وبعدها القوة العسكرية.

ولا أعتقد أن نتائج الحرب الروسية الأوكرانية حين تحط أوزارها ستكون مقتصرة على الجانبين وهو ما يظهر بعضه الآن. لذلك من الضرورى مناقشة شكل الاقتصاد والعملة الدولية التي ستسود العالم وسيناريوهات التحرك لمواجهة كافة الاحتمالات. 


بداية أعتقد إن عالما جديدا متعدد الأقطاب سيتشكل إذا نجونا طبعا من أى حمق من هنا وهناك قد يؤدى إلى كارثة فناء العالم نوويا ومن أطراف قد لا تكون طرفا مباشرا في هذه الحرب.

وأعتقد أن الحرب القادمة قد بدأت وهي حرب الصراع على وراثه عرش الدولار الذى تحول من أداة اقتصادية إلى أداة للحصار والمقاطعة والعقوبات من جانب البيت الأبيض ضد بعض الدول التي تعاديها وحتى الأصدقاء لم ينجو العديد منهم من سيف هذا السلاح بالإملاء عليهم بدلا من التفاوض لحل الخلافات معهم..  فضلا عن سلاح تجميد الأرصدة لإنها ببساطة مودعة في بنوكهم!

 

يعني الدولار أصبح سلاحا وضع الخصم على لوائح عقوبات تقضي بحرمانه من استخدام نظام آليات التحويلات المالية الذى يهيمن عليها البيت الأبيض عبر العالم.. فإذا ما تم وضع شخص أو جهة على هذه القوائم فإن الجميع يتجنب التعامل معه حتى خارج الولايات المتحدة خوفا من عقوبات محتملة تصيبهم. وغالبا ما تتم هذه التحويلات بالدولار الذي يسيطر على سوق صرف وتبادل العملات العالمية بنسبة 85 بالمائة. كما يشكل عملة الاحتياط الرئيسية في العالم بنسبة تزيد على 60 بالمائة.

التحرك الصيني

 

المسألة أصبحت خطيرة من وجهة نظر الأقوياء الجدد وستلقى بظلالها على الجميع وبدأت بوادر الصراع منذ فترة حين أعلنت الصين قرارها ليس لوراثة الدولار وتشييعه لمثواه الأخير لكن على الأقل كسر هيمنته بعد أزمة كورونا. وبدأ التنين الصينى خطواته المتعددة لفرض وجوده منها شراء المزيد من المناجم والشركات المنتجة للذهب في أمريكا الجنوبية وأفريقيا، وقبل ذلك أصبحت بكين أكبر منتجي الذهب بكمية تقارب 500 طن في السنة مقابل نحو 210 أطنان للولايات المتحدة. 

 

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الصين ليست من البلدان المخزنة للذهب الذي يعد إلى جانب ناتج محلي إجمالي قوي أفضل ضامن لاستقرار العملة، فإن السيناريو المرجح من وراء ذلك يقول بأنها تعد العدة لدعم التعامل الدولي بعملتها من خلال احتياطي ذهبي كبير واقتصاد يصعد بسرعة الصاروخ  لاحتلال موقع الصدارة في العالم.

 

ويدعم هذا الرأي قول فانغ هاي شينغ رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية: إعتماد الصين على النظام القائم على الدولار يجعلها عرضة للخطر.. ولم يقف الأمر عند شراء الذهب بل إلى إطلاق الصين لبورصة عالمية في شنغهاي لتداول عقود النفط بالعملة الصينية اليوان اعتبارا من أوائل عام 2019، وشكلت هذه الخطوة ضربة قوية لاحتكار نظام البترودولار لصالح نشوء نظام البترويوان.

 

يعنى التحرك الصينى بدأ ومستمر منذ أعوام وليس الآن بعقد اتفاقيات مع روسيا وتركيا وإيران والهند ودول أخرى لتعزيز تبادلاتها التجارية بالعملات الوطنية بدلا من الدولار.  ولم يقف الأمر عند هذا الحد لكن بتأسيس الصين مع دول البريكس الأخرى من شنغهاي بنك التنمية الجديد برأسمال يزيد على 100 مليار دولار بهدف  تعزيز استثمارتها المشتركة وتحقيق المزيد من التوازن في المعاملات الدولية.

 

كما أطلقت من بكين في عام 2014 البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي تشارك برأسماله حاليا نحو 60 دولة بينها روسيا ومصر والسعودية وبريطانيا ودول أوروبية أخرى. ويزيد رأسمال البنك على 100 مليار دولار ويتوقع أن يكون خلال السنوات العشر القادمة منافسًا قويًا لصندوق النقد الدولي الذي تتحكم الولايات المتحدة وحلفائها في قراراته بحكم ملكيتها لغالبية الحصص فيه.



تعدد عرش العملات

 

بالإضافة إلى مشروع طريق الحرير الجديد "حزام واحد- طريق واحد" باستثمارات ضخمة تشمل ستين بلدا حتى الآن. يعنى التنين الصينى يضع أقدامه في أكثر من 60 دولة.. إذا الحرب مستعرة وليست في أوكرانيا ولكن في أروقة الاقتصاد وهى الأخطر وعلينا أن نعد العدة لمواجهة هذه الاحتمالات.. نعم هناك حرص من العديد من الدول وفى مقدمتها الصين  وروسيا وحتى أوروبا واليابان  على عدم موت الدولار لأنها ببساطة تملك احتياطيات ضخمة منه، فالصين تملك احتياطات دولارية تزيد على 3 تريليونات منها أكثر من 1.1 تريليون دولار استثمارات صينية في السندات الأمريكية.
 
والسؤال هل تتجرأ الصين وروسيا على كسر احتكار الدولار وتعويم عملتهما وطرحهما للتبادل التجاري الدولي بسعر مستقر؟ لو حدث ذلك سيعنى أننا دخلنا عصر الأقطاب المتعددة في العملة من الروبل الروسى واليوان الصينى إلى اليورو والجنيه الإسترلينى والين الياباني.. إلخ. 


وتعدد عرش العملات لا يبدو متعارضًا مع التوجهات الصينية التي لا ترمي للقضاء على دور الدولار بقدر ما ترمي إلى تحجيم هذا الدور بشكل يتناسب مع دور واشنطن  في التعاملات التجارية الدولية. ويعود الحرص الصيني على عدم تحطيم   الدولار إلى احتفاظ بكين باحتياطى ضخم منه فالهدف على الأقل ولو في مرحلة حالية كسر احتكار الدولار، وطبعا ستكون  نتائج  كسر احتكار الدولار إلى تراجع الطلب عليه بشكل يؤدي إلى انخفاض سعره وقيمته.

والسؤال ماذا يعنى ذلك لنا في الدول العربية؟ 
يعنى خسائر كبيرة خاصة  للدول التي وضعت كل احتياطاتها بالدولار وربطت عملاتها بها لأسباب جيوسياسية. والحل من الآن هو فك هذه الاحتياطيات إلى العديد من العملات حتى لا نضع كل بيضنا في سلة واحدة لأننا ببساطة لا نتحمل اقتصاديا الانهيار في الدولار إذا حدث فجأة.
 


وقد بدأت مصر ذلك بمد جسور التعاون شرقا وغربا وتعاملات تجارية ومالية عالمية تقوم على التعددية لتكافؤ أفضل في فرص التجارة. وعلى العرب  الاستعداد بسيناريوهات متعدده لنظام عالمي بعملات متعددة  قد يكون من سماته حماية الجميع من الارتهان لعملة واحدة ولتقلبات سعرها في السوق الدولية أو التعرض لعقوبات أحادية الجانب تحرم شعوبها حتى من الغذاء والدواء!
yousrielsaid@yahoo.com

الجريدة الرسمية