رئيس التحرير
عصام كامل

ماذا فعل عبد الناصر عندما رفضته الكلية الحربية وكيف عاد لها مرة أخرى؟

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

داخل المنزل رقم 18 بشارع أنواتي بحي باكوس، أحد الأحياء الشعبية بمحافظة الإسكندرية، جلس جمال بالقرب من مذياع منزل أسرته المتواضع يتابع أخبار العالم، حديثا يمتد عن أعظم الجيوش وحربا عالمية أخرى وشيكة الاندلاع، وأرض وشعبا يعانين ويلات الاحتلال.. وانتفاضة طلابية كان في القلب منها الفتى الصعيدي الحالم بزي عسكريا وشعب يمتلك قوت يومه ويقرر مصيره.

 

البدلة العسكرية.. كان رمزا وحلما راوض الفتى الصغير جمال عبد الناصر منذ أن كان طالبا في السنوات الأولى للبكالوريا-المرحلة الثانوية آنذاك- رغم كل ما يعرفه من طبقية الاختيار لمثل هذه المناصب، إلا أن جمال لا يعرف يوما الانهزام.
 

عام ١٩٣٦ كان نقطة فارقة في تاريخ جمال عبد الناصر، بل في تاريخ الأمة العربية قاطبةً، مهدت له الطريق لدخول التاريخ من بوابة الزعماء، ففي ذلك العام، قررت  حكومة الوفد ولأول مرة بفتح أبواب الكلية الحربية لجميع المصريين بصرف النظر عن أصولهم الاجتماعية وانتمائتهم الطبقية ووضعهم الاقتصادي، حيث تحولت القوات المسلحة المصرية من جراء ذلك إلى جزء من المواطنين لا يفرقها عنهم سوى أن أفرادها يرتدون الملابس العسكرية.

 

تفاءل الشاب الطموح بالقرار، وحفزه أيضا  مقوماته الجسدية للالتحاق بالكلية الحربية حيث كان رياضي التكوين، فارع الطول، قوي البنية، جاء موعد التقديم، وقبل  مسؤولو الكلية الحربية أوراقه، وحددوا له موعدا آخرا لإجراء الفحص الطبي للتعرف على لياقته البدنية، وبعد الفحص قررت اللجنة صلاحيته، وأبلغته بميعاد آخر لإجراء امتحان الهيئة، لكن التقارير السرية كانت قد سبقته إلى اللجنة تفيد بأن له نشاطا سياسيا، وقد نظم المظاهرات الطلابية خلال فترة دراسته الثانوية، وهو لذلك كان غير منضبط، وتم التوصية بعدم قبوله. وليس هذا فحسب بل كانت المقابلة مع اللجنة والتي تميزت أسئلتها بالصرامة والتدقيق وكانت توحي بطبيعتها ومسارها بعدم القبول.
 

جلس جمال، بين زملائه الطلبة المقبولين في الكشف الطبي منتظرًا كشف الهيئة حتى إذا ما جاء دوره، وقف أمام أعضاء اللجنة الذين وجهوا  إليه أسئلة توحي طبيعتها بعدم قبوله، ويتصفحون أوراقه، وبعد بضع دقائق رفع رئيس اللجنة رأسه قائلا له:

اسمك إيه.. فرد: جمال عبد الناصر حسين

رئيس اللجنة: أبوك بيشتغل إيه؟

جمال عبد الناصر: موظف بمصلحة البريد

رئيس اللجنة: موظف كبير

جمال عبد الناصر: لا موظف بسيط

رئيس اللجنة: بلدكم إيه؟ 

جمال عبد الناصر: بني مر – مركز أسيوط

رئيس اللجنة: يعني فلاحين

جمال عبد الناصر: أيوة


 

رئيس اللجنة: فيه حد في عيلتكم كان ضابط جيش؟ 

جمال عبد الناصر: لا

رئيس اللجنة: أنت عاوز تبقى ضابط ليه؟

جمال عبد الناصر: عشان أبذل دمي فداء للوطن

رئيس اللجنة: عندكم أملاك؟

جمال عبد الناصر: إحنا ناس كادحين.

رئيس اللجنة: فيه حد اتكلم عشانك؟ واسطة يعني؟

جمال عبد الناصر: أنا واسطتي ربنا.

رئيس اللجنة: أنت اشتركت في مظاهرات؟

جمال عبد الناصر: أيوة.

رئيس اللجنة: طب اتفضل أنت.

ومن خلال هذه الأسئلة أيقن جمال، أنه مرفوض، وأن الالتحاق بالكلية الحربية يقتصر على أبناء الذوات، والطبقة الارستقراطية، لكنه لم ييأس والتحق بكلية الحقوق لدراسة القانون باعتبارها المنقذ الوحيد المتبقي لديه، ولتحقيق أهدافه الوطنية، ومع ذلك ظل يحلم بالعسكرية والجيش.

 

فهم جمال من خلال آلية المقابلة ونمط الأسئلة أنه مرفوض، فأسرته لا تمتلك أطيانا وأبوه موظفا بسيطا بالبريد، وصحت توقعاته، فلم يكن اسمه في قائمة المقبولين، بعدها قرر جمال عبد الناصر الالتحاق بكلية الحقوق المنقذ الوحيد لديه وقتذاك لتحقيق أهدافه، وذلك لأن المجال أمام الحاصلين على شهادة حقوق أوسع شأنا في إصدار الصحف والمجلات وتشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات الاجتماعية.

 

وبعد 5 أشهر، تجدد الأمل مرة أخرى عندما أعلنت الكلية الحربية عن حاجتها الماسة إلى دفعة جديدة من الطلبة، نتيجة التغييرات التي أحدثتها معاهدة ١٩٣٦، وتنبؤات لنشوب حرب عالمية ثانية، في ظل نقص شديد في عدد الضباط.

قرر جمال عبد الناصر، خوض غمار التجربة مرة أخرى، فاستجمع قواه، وما لديه من شجاعة، وتوجه إلى منزل وكيل وزير الحربية المصري آنذاك اللواء إبراهيم خيري باشا، المعروف باهتمامه بتربية كوادر الوطنية من ضباط الجيش.

أثار اللقاء إعجاب اللواء خيري، لشجاعة جمال وحماسه، وما لمس فيه من قوة شخصية وصلابة، وأصغى إليه باهتمام شديد بعدما أوضح له سبب عدم قبوله بالكلية الحربية في المرة الأولى، ووعده في نهاية الحديث خيرًا.

وجاءت المفاجأة التي أسعدت جمال عبد الناصر، أثناء مقابلة لجنة فحص الهيئة حيث كان اللواء خيري، يترأسها، وأمر بقبوله فورًا، وبدأ جمال عبد الناصر، مرحلة جديدة  بدأت معها سطرا جديدا من تاريخ هذه الأمة.

الجريدة الرسمية