رئيس التحرير
عصام كامل

الخروج الآمن لمنظومة الفساد (1)

كانت رواية اللص والكلاب للأديب الكبير نجيب محفوظ عام ١٩٦١ إحدى نقاط التحول في حياته الأدبية، وبداية ظهور النزعة الفلسفية في رواياته، وقد ناقش فيها عدة أفكار قد لا يُدركها القارئ للوهلة الأولى، ولكن يجب عليه أن يتعمق في القراءة كما تعمق الأديب في الكتابة، ولم تقف صناعة السينما مكتوفة الأيدي أمام هذه التحفة الأدبية، فابتدرتها أيادي العباقرة، كل في مجاله حتى خرج الفيلم ليخطف قلب المجتمع بأسره، ويطرح أفكارًا عديدة في سياق درامي، وفي رأيي المتواضع أن أهم أفكار الرواية والفيلم هو ذلك التساؤل الذي يدور في خلد كل من يقرأ ويشاهد تلك التحفة الفنية، لماذا لا يموت المجرمون الحقيقيون؟ 


ويتفرع عن ذلك السؤال أسئلة عديدة، منها: لماذا ينظر المجتمع الى اللص الضعيف نظرة ازدراء؟ وينظر إلى اللص القوي نظرة تعظيم؟ ولماذا يفلت الأخير من العقاب؟ ولماذا يقع الأول في يد العدالة لتقتص منه مرة تلو أخرى؟ 

قواعد المعركة
ونحن اليوم في حاجة ماسة للإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها لنحدد آليات القضاء على الفساد، الذي يراهن المستفيدون منه على سرعة يأس محاربيه ومكافحيه لأن القانون يدير قواعد المعركة، والفاسدون لن يلتزموا بالقواعد، وبالتالي فكل الطرق مُعبدة وممهدة لهم، والعقبات والثغرات القانونية تقف في طريق اعدائهم، الذين هم في جميع الأحوال، وان كانت مرتباتهم مناسبة، إلا انهم من محدودي الدخل، الى غير ذلك من أسباب عدم تكافؤ الفريقين.

ومن هذه الأسئلة، نختار أهمها، وهو كيف يفلت الفاسدون الكبار؟ ويقع الأعوان الصغار؟ والذي يمكن أن نسميه "الخروج الآمن" لكبار الفاسدين، ولست أبالغ إن قلت أن التاريخ يعيد نفسه، وأن المعركة تكاد تتكرر مع اختلاف الأسماء وبعض التفاصيل، فقد عُرِفَ "الفساد الاداري" مع ظهور مفهوم الدولة. 


ولن يتسع المقام الى شرح العديد من التفصيلات، بقدر ما نلقي الضوء على الخطوط العريضة لاجابة السؤال، ومثال ذلك فيلم "العرضحالجي" الذي قدمه لنا كوكبة من الفنانين المبدعين يخجل القلم عن ذكر أحدهم دون الآخر، ولكن اقتبس منه فكرته البسيطة، ومضمونها، إن كل فاسد لابد ان يعاونه مجموعة من الفاسدين، وتجدهم غالبًا في مقتبل حياتهم، وفي احتياج شديد إلى المال، للزواج أو علاج أحد الوالدين.

ويستغل كبار الفاسدين ظروف الشباب لتنفيذ خططهم القذرة، فنجد "العرضحالجي" يُدير مكتبًا للمحاماة، ويتحكم في أحكام المحاكم بطرقٍ ملتوية، ونجد من يحاول تجنيد فتاة لاغراض مشبوهة، بينما هم أمام العامة يمارسون أعمالهم المعتادة.
 
صانع الفساد
والحقيقة أن فيلم العرضحالجي حرص على تقديم النهاية السعيدة مثل أفلام تلك الحقبة الزمنية، وجعل من البطل الفنان الراحل سمير غانم بطلًا حقيقيًا استطاع الخروج من عباءة الفساد، وهدم المعبد على أصحابه، كما تقبل خطأ من يحبها حينما ألقي القبض عليها في جريمة مخلة بالشرف، وهو نموذج مثالي لا يحتمله الواقع، ولكن الحقيقة غير ذلك.

والحقيقة التي لا بد ان نتأكد منها أن في داخل كل مؤسسة "صانع فساد" وإن شئت فقل صانع ألعاب، أو عرضحالجي، ويختص غالبًا بالشئون المالية، ويعاونه ظهير له قريب من رئيس تلك المؤسسة، أو بدائرة إتخاذ القرار، وسرعان ما ينسج المجرمون شبكة من أعوان السوء، تلك التي يقع فيها رئيس المؤسسة أيا كان نوعها، سواء كانت هادفة للربح أم تؤدي خدمة، ويستوي في ذلك الوزارة والمديرية والهيئة والشركة. 

وبؤرة الفساد هو ذلك المختص بالشئون المالية أو العرضحالجي، ويمكن أن نرمز له في حدثنا بـ"أبو الشرف" ولا تفوتك إبتسامته الصفراء، ويسهل أن تتعرف عليه من تدينه المصطنع، وهدوئه في جميع المواقف، حتى وهو يتلقى الإهانة، فهو لا يهتم بتلك الأمور البسيطة بالنسبة له، بقدر ما يهتم بأن يعرف عنه الجميع أنه رجل صالح، ويمكنك أن ترى "ابو الشرف" وهو يدعي مرضًا أصاب قدميه، وتارة تجده واضعًا جبيرة على يديه، ويُحدِث الجميع عن الصبر على البلاء، ويسألهم الدعاء.. وللحديث بقية

الجريدة الرسمية