رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات الست ماري (10)

أكثر ما يميز الست ماري هو أن لديها مرونة عمرية تجعلها قادرة على التكيف مع كل الأعمار، فهي مع الأطفال طفلة أصغر منهم، وإذا ما جلست وسط مجموعة من الشبان والشابات ستجدها شابة عفية بروح منطلقة، وكذلك هو الحال إذا ما جمعتها جلسة واحدة مع نسوة العمارة، الائي تخطين الستين من العمر، فما لديها من حكمة ورجاحة عقل تجعلها أكثرهن اتزانا وقدرة على تقييم الأمور وتقديم النصائح، التي لم تخب يوما.


أتذكر تلك الليلة، التي تجمع فيها النسوة ببيت الست ماري، قبل سنوات، عقب وفاة الحاج صالح الدرملي، صاحب وكالة القماش ببولاق، والذي ترك زوجته وثلاثة بنات يسكن جميعا في العمارة ذاتها التي نعيش فيها.

حكاية الحاج صالح رحل الحاج صالح بعد رحلة مرض مهلكة استمرت عاما كاملا، إذ أصيب بـ«المرض البطال»، ولم تفلح معه كل العلاجات الكيماوية والإشعاعية، ما دفع زوجته الحاجة صفية عباس لأن تحمله وبناتها إلى أحد مراكز محافظة الجيزة إلى أحد مدعي معالجة هذا المرض اللعين بالطب الشعبي، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئا، فكانت مشئية الله.

قبل تلك الليلة التي أتحدث عنها، كانت الست ماري قد حكت لي قصة الحاج صالح الدرملي، والذي أنجب من امرأته ثلاثة بنات مثل الورد، ولم يرد الله أن ينجب منها ولدا، ورغم معايرة اشقاءه له على ذلك الأمر الذي لا دخل لمخلوق فيه، إلا أن الرجل كان دائما ما يردد «هن بناتي الواحدة منهن بألف رجل».

قالت الست ماري، إن الحاج صالح حين اشتد عليه المرض تقاعد، وكان قاب قوسين أو ادنى من أن يبيع وكالته لأحد منافسيه، غير أن بناته الثلاث قررن أن يأخذن مكان أبيهم المريض، على غير عادة تلك العائلة العريقة في مجال تجارة الأقمشة.

وبينما كانت وكالة الحاج صالح في أضعف حالها، خاصة بعدما تراكمت عليها الديون في أثناء مرضه، تمكن البنات من إعادة التجارة لما كانت عليه بل وتوسعن في الأمر إذ أضفن مخزنا جديدا للوكالة، اشترينه من الحاج رجب السبكي صاحب الوكالة المجاورة، ثم سرعان ما زادت أرباح الوكالة، بشكل جعل والدهن المريض يقسم أنه سيموت وهو راض بل وسيكون مسرورا لأن مرضه هذا مثل فرصة لأن يثبت حسن ظنه ببناته وصدق توقعاته بقدرتهن على إدارة الأمور وملئ الفراغ الذي ستركه حين يرحل.

في الليلة التي أعقبت وفاة الحاج، جلست الحاجة صفية زوجته وبناته الثلاث في بيت الست ماري وسط جمع من «ستات» العمارة، وحين أطلقت إحدى النسوة صرخة مدوية وتبعها نحيب وعديد تأبينا للرجل، زعقت فيهن الست ماري وهي تحتضن صفية وبناتها، وقالت «من كان يحب الحاج صالح فليدعو له، لا داعي للنحيب فالرجل الصالح رحل عن دنيانا بجسده لكن سيرته الطيبة ممتدة في بناته وزوجته أطال الله في أعمارهن».

 ماري وبنات صالح
مسحت الحاجة صفية دمعات انسابت على وجنتيها، وارتسمت على وجهها علامات الرضا، فيما اقتربت البنات من الست ماري وأحتضنها، وقالت كبيرتهن وفاء: «والله يا ست ماري ذلك ما قاله لنا المرحوم أبينا، حتى أنه أوصانا بأن نلازمك طيلة ايام العزاء، إذ لم يرد لنا أن نشقى بعده أو نحزن».

وأردفت الصغيرة مريم: «نعم، كان حبيبي رحمة الله عليه يرى فيك يا ست ماري مثالا للمحبة والرضا.. كان يعلم أن محبتك لنا ولأمي ستكون خير سند في محنتنا هذه».

صمتت النسوة، فيما راحت الست ماري تحكي عن ولديها الذين هاجرا قبل سنوات طوال، وقالت بصوت مرتعش، إن الحياة والموت أمر نسبي، وأن الأمر الوحيد الذي يجعلها متيقنة من أن ولديها مازالا بين الأحياء، أنهما من وقت لآخر يهاتفانها لدقيقة أو دقيقتين.

سكتت الست ماري للحظات، وبدت كمن يدفن في قلبه حزن السنين، ثم انفجرت باكية حين تذكرت أن ابنيها رفضا العودة إلى مصر، حين مات أبيهما ليدفناه، وتحججا وقتها بأن عودتهما تحتاج إلى كثير من الوقت لاستخراج الأوراق اللازمة، وبهذا أوصياها بأن تدفن المرحوم دون أن تنتظرهما، وبما إن حضورهما بعد ذلك سيكون بعد انتهاء تشييع الجنازة والدفن والعزاء، فإنه أمر بلا فائدة!

تحول الأمر من عزاء الحاج صالح، إلى مواساة للست ماري، التي تحبس داخلها وجع لو أنزله الله على جبل لما تحمله، غير أن صاحبة البيت لم ترد أن يستمر الحال على ما هو عليه، فراحت تقص حكاياتها الظريفة عن طفولتها وصباها، فنسيت الحاجة صفية وبناتها والحاضرات أمر العزاء ووقعن على ظهورهن من الضحك.

لم ينقطع الضحك، إلا حين تنهدت الحاجة صفية، وترحمت على زوجها مبتسمة، وقالت: «رحمه الله كان أوهن من أن يتحمل الوجع، لهذا أحمد الله أنه لم يتعذب ولم يتوجع أكثر من ذلك.. لقد قال لي قبل موته بيومين إنه سيرحل وهو راض ويأمل أن يكون الله قد رضي عنه وطهره بهذا الابتلاء».

قضت النسوة ليلتهن في بيت الست ماري، وفي الصباح تناولن الفطور من يديها، ثم راحت كل منهن إلى حالها، أما البنات فسارعن بالعودة إلى الوكالة بناء على نصيحة الست ماري، التي قالت لهن إن اسم الحاج صالح الدرملي لابد وأن يبقى ويكبر على أيديهن، ولا يصح ان يغلق المحل الكبير بابه ولو ليوم واحد حتى لا يقال إن «الحاج مات وماتت سيرته».

كان ذلك الأمر قبل سنوات، واليوم بات اسم الحاج صالح الدرملي يزين واجهت سبع وكالات لبيع الأقمشة في بر مصر، إضافة إلى عدد من المحال الصغيرة التي تبيع الملابس، وقد تزوجت البنات الثلاث وأنجنبت كل منهن ولدا حمل اسم «صالح».
الجريدة الرسمية