رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات الست ماري (8)

تأبطت ذراع الست ماري من البيت إلى الحديقة القريبة، ولم أكن أعرف من منا يأخذ بيد الآخر، فهذه السيدة التي يعانق عمرها السبعين عاما، تتمتع بحيوية صبية في مقتبل حياتها، فتضحك وتهرول وتحتضن الأيام والأحداث والأشياء برضا يجعلني أغار منها!


ورغم أنني هذه المرة حرمت من فنجان القهوة المعتبر، الذي تعده لي بيديها على نار السبرتاية المدهشة، إلا أنني كنت محظوظا بالخروج معها، إذ جعلتني أرى الحياة بعينيها هي، فوجدتها مختلفة تماما عن تلك الحياة التي أراقبها من خلف نظارتي السوداء.

روز والفراشة
بعد مسافة كبيرة، لمحت الست ماري في عيني علامات التعب، فضحكت في رقة وطلبت مني أن نستريح على أريكة خشبية تتوسط مساحة من العشب الأخضر، تظللها شجرة وافرة. جلسنا، فأخرجت من حقيبتها بعضا من الكعك، الذي خبزته بيديها، وسكبت لي كوبا من الشاي، كان التورمس كفيلا بأن يبقيه ساخنا منذ خرجنا من البيت حتى وصلنا إلى الحديقة.

أكلت الكعكة بشهية لم أعهدها في نفسي، ورحت أعب الشاي عبا في بطني، فقد كان مذاقه عجيبا، ولربما لم أشرب مثله في عمري، وظل الحال هكذا إلى أن قاطعت الست ماري وصلة الاستمتاع هذه بسؤال: «ألا تريد أن تعرف قصة الفراشة؟».

واصلت مضغ الطعام، وقلت لها بصوت يعكس امتلاء فمي بالطعام، وكأنني طفل: «نعم، طبعا أريد.. الفضول يأكلني منذ الامس.. أريد أن أعرف لماذا تركتي الأطفال وحدهم وذهبتي تلاحقي الفراشة؟!».

ضحكت الست ماري، فذكرتني بجدتي رحمها الله، وراحت تحكي لي قصتها مع الفراشة:
«قبل أعوام كثيرة، ربما تزيد عن ضعف عمرك، كان لي شقيقة صغرى، كنا كتوأمتين رغم فارق الثلاث سنوات بيننا، لكننا كنا مقربتين للدرجة التي تجعل من يرانا يقسم أننا ولدنا في اليوم ذاته، بل إننا نسختين متطابقتين..

روز، كان ذلك اسمها، وبالفعل كان لها من اسمها نصيب، فقد كانت زهرة يانعة، الضحكة لا تفارق ثغرها، وشعرها يطير هنا وهناك وكأنه أوراق شجرة تعانق الريح.. أحيانا كنت أشعر أنها أمي، وأحيانا كنت اشعر أنها ابنتي.. كل منا كانت تلعب الدور نفسه مع الآخرى.. إذا مرضت شعرت أنا بالتعب، وإذ فرحت سر قلبها..

إختفاء روز
كانت روز تعشق الزهور، وكنت أعشق الفراشات، وكان عشقنا للألوان الزاهية مشتركا، وقد كانت دوما تقول إن الفراشات زهور طائرة، والزهور فرشات ذات جذور في الأرض..

وذات يوم، رأيت فراشة وكنا نتنزه في إحدى الحدائق، فهممت بالجري وراء الفراشة اتعقبها، غير أن شوكة انغرست في باطن قدمي، فصرخت ولما عاينت روز قدمي أخذت تبكي وكأن الشوكة قد انغرست في قدمها هي.. أجلستني روز على أريكة تشبه هذه التي نجلس عليها الآن، وبسرعة انتزعت الشوكة، ثم ضمدت قدمي بإشارب كانت تضعه على عنقها..

هدأت وبدأت اشعر بارتياح، حين عادت الفراشة مجددا، فلما وضعت قدمي على الأرض كي أركض خلفها شعرت بوخذ مؤلم، فاجلستني روز مرة أخرى على الأريكة وطلبت مني أن أرتاح ووعدتني أنها سوف تلاحق الفراشة وستعود لتحكي لي عنها..

مضت روز خلف الفراشة، والغريب أنني كنت أشعر وكأنني أراها بعيني شقيقتي.. فرغم ابتعادهما عني إلا أنني كنت أرى الفراشة تطير من هنا إلى هناك وكأنني أشاهدها عبر شاشة أمامي.. حقا، لقد رأيت الفراشة بعيني روز وكأنني لم أكن قد رأيت فراشات من قبل!!

غابت روز لبعض الوقت، فشعرت بالقلق، ورغم الألم تحاملت على نفسي ورحت أبحث عنها، غير أنني لم أجدها، فعدت إلى البيت باكية وكان الأمل يملأ صدري بأنني حتما سأجدها وقد سبقتني إلى المنزل، لكن ذلك لم يحدث..

مذاك لم تعد روز، لقد مضت في أثر الفرشة من أجلي، ولا أعلم ماذا حدث لها، ومازلت لليوم أتعقب تلك الفرشات الملونة، لعل إحداها تأخذني إلى حيث تنتظرني روز».
الجريدة الرسمية