رئيس التحرير
عصام كامل

سلسلة ما وراء التسريحة (4)

أسطورة «فردة الشراب الضائع»
بعدما تحولت إلى إنسان منكمش في حجم عقلة الأصبع، وسقطت في فتحة أنف زوجتي حسنات التي عطست وهي نائمة، وجدت نفسي وقد استقر بي المقام وراء التسريحة، وهكذا كان للقدر تدبيره وأصبحت بالفعل في المكان الذي وددت لو أكون فيه من أجل استعادة سلسلة مفاتيحي الضائعة، ثم الخروج لأشرب التركيبة المذابة التي سبق وحضرتها والتي ستعيدني إلى حجمي الطبيعي، لأعود بخيت الذي يعرفه الجميع، عامل المشرحة الذي كان يوما مساعد عالم قد الدنيا، لولا غدر الزمان.


يبدو المكان هنا مظلما، غير أن إضاءة الغرفة ترسل لي بصيصا من نور، يمكنني من تمييز الأشياء حوالي، وهي أشياء لو تعلمون كثيرة جدا، فقد تراكمت بسقوطها خلف التسريحة، فهذه مثلا بعض الدبابيس التي أراها تشبه الشمسية نظرا لحجمي الصغير، وهذه أسطوانة ضخمة لكنني بسهولة عرفت أنها حجر قلم، ثم هذه حلقة ذهبية ضخمة للغاية وبدن تفكير هي دبلة زواجي من المدعوة حسنات.

الكثير من الاشياء الضائعة هنا حولي، لكن ليس بينها سلسلة مفاتيحي التي أبحث عنها، والتي تضم مفتاح المشرحة، محل عملي. وبينما أنا منهمك في البحث عن السلسلة، سمعت همسا، وحين استدرت لأستكشف مصدر ذلك الصوت، فقدت وعيي، فقد ضربني كائن غريب على رأسي.

سلسلة ما وراء التسريحة (3)

استفقت وقد وجدت نفسي في مكان غريب، مبنى يشبه قصور أفلام الكارتون، مليء بالألوان وقطع الفطر أو المشروم كما تقول زوجتي المتفلسفة، وحين حاولت النهوض وجدتني مكبل بالحبال، وأظن أنها خيوط عنكبوت فحجمي الصغير يخيل لي الأشياء وكأنها ضخمة.

ظل الحال هكذا، إلى أن فوجئت بباب الغرفة التي حبست داخلها ينفتح، ثم ولج منه ثلاثة كائنات غريبة تشبه السنافر، والتي أخذت تتهامس بلغة غريبة ثم نظر أحدهم لي وتحدث إلى، فقلت له: « أنا لا أعرف ما تقول.. هل تتحدث العربية»، فنظر ذلك الكائن لقرينيه ثم رد علي: «نعم فقد خدمت في شبرا الخيمة لسبعة أعوام، لهذا أنا أتحدث العربية بل والعامية المصرية».

حمدت الله أنه يتحدث العربية، فقد أفهم منه ماذا يحدث، ومن هم، وماذا يفعلون في بيتي.. والكثير من الأسئلة التي كانت تدور في ذهني مثل الكلاب الصعرانة. قال لي ذلك الكائن إنه «باتسو»، وهذا ليس اسمه لكنه اسم عام يطلق على كل فرد من هذه الكائنات ذات الأنوف الكبيرة التي تشبه ثمرة الكيوي بينما جسمه يشبه حبة الكمثرى.

وقبل أن أسئله عما يشغل بالي، باغتني ذلك الباتسو بالعديد من الأسئلة، بل الاتهامات، فهو يظن أنني أنتمي لكائنات تسمى «باكيتو»، وهي كائنات معادية للباتسو وكل منهم يتغذى على الآخر، ولولا أن لي أذنان لالتهمني هو ورفقيه في الحال، في الوقت الذي أقسمت له أنا بأنني إنسان لكني صغير الحجم وشرحت له ما حدث.

التفت الباتسو لرفيقيه من الباتسو ووضع كل منهما ذراعه على كتف الآخر وكأنهم فريق كرة يقرأ الفاتحة قبل المباراة، ثم أخذوا يتمتمون بكلامهم الغريب، إلى أن دخل علينا باتسو رابع وكان يجرجر وراءه فردة شراب.. لكن انتظروا، إنه شرابي، لا يمكن أن أخطئه، فليس هناك أحدا غيري يرتدي ذلك الشراب الأصفر المطبوع عليه صورة العنكبوت الراقص، وهذه هي الفردة الشمال – لامؤاخذة – وهي ضائعة منذ أسبوع، فأخر مرة قررت ارتداء ذلك الشراب لم أجد إلا الفردة اليمين، وحين تعبت من البحث عن «الشمال» وضعت «اليمين» في درج الشرابات ذات الفردة الواحدة في دولاب الملابس.

إنذار شديد البهجة

وحين وجدت الباتسو الأربعة يتحدثون بلغتهم الغريبة، صرخت في الباتسو الرابع قائلا: «هات فردة شرابي يا لص»، فنظر لي والشرر يتطاير من عينيه المربعتين، ثم قال: «لم تعد فردتك، فمنذ اسبوع وأنا أجرجرها إلى هنا». مر وقت طويل وأنا أحاول إقناع الباتسو أن جرجرتهم لفردة الشراب لا تثبت ملكيتهم لها، بل إن هذا الأمر يعد سرقة، «لكن تقول لمين؟».

في فورة غضبي اقترب مني الباتسو الثاني، وأخبرني أنهم قرروا قتلي لأنهم لا يأمنون شري، مع إنني لم أفعل لهم شيئا بل هم من سرقوا فردة شرابي، ثم اقترب باتسو آخر وهو يحمل دبوسا ضخما وهم بغرسه في رأسي كي يقتلني، فصرخت والرعب يكسو وجهي، قبل أن أصيح بصوت عال: «انتظروا بدلا من أن تقتلوني أخبروني ماذا تفعلون بالشرابات وسوف اساعدكم في الحصول على الكثير منها»، فتوقف الباتسو قبل أن يصل سن الدبوس إلى رأسي.

نظر الباتسو إلى بعضهم البعض، وتمتموا بكلمات لم أفهمها بالطبع لكنني استنتجت أنهم قد أعجبوا بفكرتي، لكنني اشترطت أن يخبروني بالسر قبل أن أساعدهم في الحصول على الشربات، فعلمت منهم أنهم كائنات غريبة تعيش في ثنائيات، ودائما ما يشكلون عددا زوجيا، أما إذا بات عددهم فرديا لأي سبب كأن يموت أحد الباتسو مثلا أو يضل الطريق، فإنهم سوف يهلكون جميعا، ولا يمكن تفادي ذلك إلا إذا استعانوا بفردة شراب ملبوسة لتكمل عددهم ليصبح رقما زوجيا!!

ومن هنا فهمت السر الذي حير مليارات البشر عبر السنين، ففرد الشربات الضائعة منا لم تكن نتيجة إهمال الزوجات وهن يغسلنها، كما أن فكرة وجود فجوة زمنية - مكانية داخل الغسلات تبتلع فرد الشربات اتضح أنها ليست صحيحة.

وأخيرا اتفقنا، فقد تعهدت للباتسو أن أحضر لهم الكثير من فرد الشربات الملبوسة، حتى يكون لديهم مخزونا منها، يستطيعون به سد العجز في أعدادهم إن أكلت منهم كائنات الباكيتو واحدا منهم، وفي المقابل كان عليهم أن يساعدونني في استعادة سلسلة مفاتيحي حتى أتمكن من استعادة حياتي الطبيعية.

وبالفعل حرروني من تلك الخيوط التي قيدوني بها، ثم أطعموني بعضا من فتات الخبز المتساقط خلف التسريحة، ثم رحلت معهم من ذلك القصر الذي كنت محتجزا داخله، وبدأنا رحلة البحث عن سلسلة المفاتيح.

مرت أيام وليال عديدة ونحن سائرون في الطريق، ومن وقت لآخر كنا نأخذ قسطا من الراحة أو نتوقف لتناول الطعام والنوم، وخلالها كان الرعب رفيقنا، ففي إحدى المرات هاجمتنا أنثى عنكبوت ونصبت حولنا خيوطها، لولا أن الباتسو كانوا يحملون بعض السكاكين اليت صنعوها من الدبابيس التي تسقط خلف التسريحة، فتنكنا من قطع الخيوط ومهاجمة العنكبوتة الشقية التي فرت أمامنا.

أيضا في إحدى المرات الأخرى، سقطت علينا فرشاة شعر من أعلى التسريحة، وكادت تقتل أحد الباتسو، والذي أصيبت قدمه فحمله باتسو آخر، إلى أن حدث مالم يكن في الحسبان، فقد ظهر أمامنا فجأة كائن عملاق أخذ يلعب بشاربه، وأظنه صرصارا، ثم هجم علينا، ففر كل باتسو في اتجاه بينما وقفت أنا مكاني مثل مسمار مدقوق في خشبة صلبة، وهنا علمت أنني هالك لا محالة، فأغمضت عيني كي لا أراني كقطعة اللبان في فم ذلك الصرصار اللمخيف.

الجريدة الرسمية