رئيس التحرير
عصام كامل

تسييس القرآن الكريم


على استحياءٍ شديدٍ.. كتبتُ في هذه القضية من قبلُ؛ لعل وعسى أن ينتهى من "يُسيِّسون" الآيات القرآنية، ويلوون أعناقها في "حضرة الرؤساء" وفى المناسبات السياسية المختلفة، ويتحرَّجوا من تكرار هذا الشلوك المشين.


بكل أسفٍ.. الظاهرة ليستْ طارئة، بل قديمة، وتعودُ جذورُها في مصر إلى العصر الملكى، وربما إلى ما قبل ذلك بكثير "جدًا". الظاهرة تحتاج إلى تأصيل ودراسة وتحليل.

لستُ أقصدُ تنطعَ الخطباء والدعاة فوق المنابر للحكام والأمراء والملوك، فتلك ظاهرة لن تفارقنا، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، رغم ما جرَّته وجلبته على الأمة الإسلامية من خرابٍ ودماءٍ، ويكفى دليلًا على ذلك "الأحاديث التي تم تأليفها"؛ "إرضاءً" لهذا، أو "تأليهًا" لذلك! وإنما أقصدُ ما يفعله قراءُ القرآن الكريم في آياته وتوظيفها سياسيًا، وتحريفهم الكلم عن مواضعِه!!

المتابعُ لهذه الظاهرة، التي يمكنُ التأصيلُ لها منذ أربعينيات القرن الماضى، وحتى يومنا هذا، سوف يتخيلُ أنَّ القرآن الكريم لم ينتهِ نزوله بوفاة النبى الكريم، وإنما ظلَّ الوحيُّ يتنزلُ بعده، ليس هذا فقط، بل كان نزوله مرتبطًا بالأحداث والحوادث والثورات السياسية وبالرؤساء المصريين، دون غيرهم!

القارئ الراحل "مصطفى إسماعيل"، كان يغازل الملك "فاروق"، ومن بعده الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، حتى إنه كان يتعمد أن يتلو في حضرته قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ"؛ و"إذا جاء نصرُ اللهِ والفتحُ"؛ مغازلًا الأخير، الذي لم يكن ينهاهُ هو ورجاله عن ذلك.

وبقيتْ الظاهرة وتفاعلتْ في عهد الرئيس الراحل "السادات"، الذي كان من مُريدى القارئ المذكور ومُحبيه. وفى عهد الرئيس الأسبق "حسنى مبارك".. كان القراءُ يتلون في حضرته أيضًا قوله تعالى: "وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ". 

أحد هؤلاء القراء قال لنا في حوار قديم: إنَّ بعض رجال النظام السابق كانوا يأمرونهم بذلك أمرًا، ولا أعلمُ صحة هذه الرواية من عدمها، وإن كانت احتمالاتُ صحتها أكبر.

ولأن "خلط السياسة بالدين" نظرية إخوانية بالأساس، فإنَّ الظاهرة أخذتْ أبعادًا أكثر شراسة في الفترة التي اختطفوا فيها حكمَ البلاد، وأرشيفُ صلاة الجمعة، التي كان يحضرُها الرئيسُ الإخوانىُّ، ويواظبُ عليها، تشهدُ بذلك، والأمانة تقتضى أنَّ نؤكد أن الظاهرة لم تختفِ في السنوات الأخيرة، وإنما بقيتْ بشكل أو بآخر، ومن أشهر الآيات التي يقرؤها القراءُ في حضور الرئيس: "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا"، في مغازلة صريحة وواضحة.

في فترات سابقة.. كان هناك قارئ وحيد هو من يقرأ في حضرة الملك أو الرئيس، ولكن مؤخرًا صار من يقرؤون في حضرة الرئيس أكثر من قارئ، ما خلق بينهم أجواء من المنافسة، وكلٌّ منهم يسعى إلى إثبات أفضليته من خلال "اختياراته القرآنية"!

في احتفال الإذاعة المصرية بذكرى ثورة 23 يوليو، منتصف الأسبوع الماضى، أعاد القارئ، وهو قارئ رئاسى بالمناسبة، أمجادَ سلفه الشيخ "مصطفى إسماعيل"، حيث قرأ: "إذا جاءَ نصرُ الله والفتحُ"، وكأنَّ السورة نزلت في "عبد الناصر" وليس في "فتح مكة"!!

إنَّ ما يفعله هؤلاء القراءُ أشبهُ بتصرف صاحب "معصرة" عندما يكتبُ على واجهتها "وسقاهم ربُّهم شرابًا طهورًا"، أو عندما يرفع مالك صالة "جيم" على واجهتها لافتة تحملُ قوله تعالى: "وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناس"، وغيرها من المواقف والتصرفات التي تجسد عبثًا وتهريجًا وتحريفًا وتخريفًا بحق القرآن الكريم، تعالى اللهُ عن قولهم علوًَّا كبيرًا.

أعلمُ أنه لا يمكنُ التعويلُ على المؤسسات الدينية في مقاومة ظاهرة التوظيف السياسي للقرآن الكريم؛ لأنَّ بعضَ قادتها تفعل الأمرَ نفسَه طواعية، وربما أعظم منه، كما أنَّ منهم من يرتقب ترقيته إلى منصبٍ أرفعَ، ومن ثمَّ.. فإنهم يتغافلون ويتجاهلون هذا العبثَ بكتاب الله، رغم أنهم يُصدرون البيانات، ويُخصِّصون الخطب، لما هو أهونُ من ذلك. كما أنَّ نقابة القراء، لا تملك من أمرها شيئًا، بل إنَّ من كبارها من صنعَ مجده الدنيوى بهذه البضاعة، سواء في مصر أو خارجها!!

لذا.. لا يتبقى أمامنا سوى حلين، أولهما: مناشدة قراء الرئيس أنفسهم، بأن يُبعدوا آيات القرآن الكريم، عن توظيفها سياسيًا، لأغراض لا تخفى عليهم وعلينا؛ تعظيمًا وتقديسًا لكتاب الله، وثانيهما: أن تصدر توجيهات عُليا لهؤلاء القراء بألا يفعلوا ذلك، والتأكيد عليهم بأنه ليس مطلوبًا منهم أن يجعلوا آيات القرآن الكريم في خدمة الحاكم ومغازلته. ولو صدرت هذه التوجيهاتُ بالفعل، فلن نجد قارئًا يفعلها مُجددًا، وللهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.
الجريدة الرسمية