رئيس التحرير
عصام كامل

رجل الكهف يحطم الأرقام القياسية


قبل ملايين السنين، لم يكن يشغل بال الإنسان على الأرض سوى أن يجد له مأوى يحميه من برد الشتاء وحر الصيف، ومن قبل ذلك كله يبقيه آمنا بعيدا عن الحيوانات المفترسة، ولم تكن بالطبع قد ظهرت الكمبوندات ولله الحمد والمنة، ولم يكن للزوجة آنذاك أن تقول لزوجها «عاوزة كهف جمب أمي».


مرت الأيام والليالي، وبعدما تمكن الإنسان من توفير بيت يستره هو وأهله، بدأ يفكر في مطالب أخرى تعلق بتحسين جود حياته، فبدأ البحث عن طرق لتوفير الطعام له ولعياله، وكانت البداية بالجمع والالتقاط، إذ لم يكن له أن يختار، فهو يأكل ما يجده دون أن يتشرط، ورغم ذلك كان الرجل أسعد مخلوق على ظهر الكوكب لأن زوجته لم تكن لتسأله ذلك السؤال الذي تسبب في خراب كثير من بيوتنا وهو «أطبخلكم إيه على الغدا النهارده؟!».

وهكذا كان الإنسان ينتقل من مرحلة لأخرى، فيبدأ في التفكير من أجل تلبية المتطلبات التي تستجد مع تطور حياته، فظهرت فكرة الصيد ثم الزراعة وما إلى ذلك من طرق لتوفير الطعام بشكل منتظم وآمن، وإلى هنا كانت الأمور تسير على خير ما يرام، فلم يكن مطلوب من الإنسان سوى حماية نفسه من أخطار الطبيعة والحيوانات المفترسة مع توفير الطعام والمسكن الملائم.

دارت عجلة الحياة، ومن ثم ظهرت احتياجات جديدة، مثل استكشاف الحياة بمكوناتها، فظهرت العلوم بصورتها الأولية، مجرد معارف يكتسبها الإنسان من احتكاكه بما حوله.. كان يتعلم من الملاحظة ومن تكرار حدوث الأشياء والظواهر ومن خلال الاستكشاف والاكتشاف، ومع ذلك لم يكن العلم مكلفا إذ لم يعرف الإنسان البدائي المدارس الإنترناشيونال أو الدولية.. إيه ده الدولية هي الإنترناشيونال.. ريللي؟ آي سوير مكنتش أعرف.

المهم، تطور الإنسان وبدأ في تنظيم العلوم ونقلها للأجيال التالية شفاهة أو بالتعليم المباشر السلس (عمليا) دون تدوين ذلك في كتب وأجهزة كمبيوتر وتابلت.. حيث كان الإنسان البدائي يخشى وقوع السيستم.

أما بخصوص الصحة، فكان الإنسان يعالج نفسه بما يتوافر لديه من أدوية طبيعية اكتشفها صدفة، ورغم ذلك كان أحسن حالا من إنسان الألفية الثالثة، الذي قد يموت على باب مستشفى لأنه لا يملك ثمن العلاج.

طبعا لم يكن للإنسان أن يستمر هكذا، مجرد كائن يأكل وينام ويختبيء من أعين أعدائه كبطة بلدي تمشي وهي تهز ذيلها بين جموع الدواجن.. إذ كانت الرغبة في تحسين جودة الحياة والحصول على بعض الترفيه أفكارا تتصارع في عقل الإنسان، إلى أن نجح في ذلك بمرور العقود والقرون، حتى وصلنا لما نحن عليه الآن.. اكتشافات عظيمة واختراعات مبهرة..

ووسط هذا الكم من المهام التي اضطر لها الإنسان أو سعى طواعية إليها، وبعدما نجح في توفير المسكن والطعام والعلاج، كانت هناك حاجة لإيجاد نوع من التنافس.. فجوهر الحياة هو الصراع.. الحياة بلا صراع مملة لا محالة!!

والصراع في حياة الإنسان له أشكال عدة، أبرزها صراعه مع الطبيعة (المناخ والحيوانات المفترسة مثلا)، ثم صراع الإنسان مع أخيه الإنسان بعدما ظهرت الجماعات والأعراق.. ثم النوع الأخطر وهو صراع الإنسان مع ذاته.

ورغم أن كل أنواع الصراع تبدو منطقية، إلا أن هناك نوع من الصراع لا يمكن تفسيره في سياق منطقي بأي شكل من الأشكال، وهو يتعلق بما يسمى «الأرقام القياسية»..

ذلك الهوس بـ«الأكبر والأطول والأعلى والأغلى والأقوى والأفضل»، ولعل سجلات موسوعة جينيس خير دليل فهي تحفل بأرقام تتعلق مثلا بأطول عملية تزلج على الجليد لـ «تيس» أو أكبر سن لقلم رصاص وأغلى ثمرة بطيخ..

وفي مصر مثلا، وقبل سنوات احتفلنا بأكبر ساري علم وأكبر طبق كشري في العالم، ومؤخرا احتفلت شركة العاصمة الإدارية الجديدة بأطول مائدة إفطار في العالم!!

لكن يا خسارة..

مؤكد حضرتك ستنعتني بالفقري وتقول بعلو صوتك: «مالك ضلمتها كده ليه؟».

أقولك..

حلوة الأرقام القياسية زي السكر، لكنها تليق أكثر بأمم تخطت مرحلة البحث عن الطعام والمأوى، بينما هناك أمم في الألفية الثالثة ما زال أبناؤها يبحثون عن مستشفى للعلاج ومدرسة لتعليم أبنائهم وأربعة جدران لستر «الواد والبت».
الجريدة الرسمية